ذلك فالآية دالَّةٌ على أن أحَداً من المؤمنين لا يُخَلَّد في النار؛ لأنه بعلمه الصالح استحق ثواباً، وبمعصيته استحق عقاباً، فلا بد من وصولهما إليه - بحكم هذه الآية - والجمع بينهما مُحَالٌ، فإما أن يقدم الثواب، ثم يعاقب، وهو باطلٌ بالإجماعِ، أو يقدم العقاب، ثم ينقل إلى الثّوابِ. وهو المطلوب.
فإن قيلَ: القوم طلبوا - أولاً - غفران الذنوب، وثانياً: إعطاء الثواب، فقوله:{أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى} إجابة لهم في إعطاء الثواب، فأين الجوابُ في طلب غُفْران الذنوب.
فالجواب أنه لا يلزم من إسقاط العذاب حصول الثواب، لكن يلزم من حصول الثّوابِ إسقاط العذاب فصار قوله:{أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ} إجابةً لدعائهم في المطلوبَيْن.
قال ابنُ الخطيبِ:«وعندي - في الآية - وَجْه آخر، وهو أن المراد من قوله:{أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ} أي لا يضيع دُعاءكم. وعدم إضاعة الدعاء عبارة عن إجابة الدعاء، فكان المراد منه أنه حصلت إجابة دعائكم في كل ما طلبتموه وسألتموه» .
قوله:{فالذين هَاجَرُواْ} مبتدأ، وقوله:{لأُكَفِّرَنَّ} جواب قسم محذوف، تقديره: والله لأكَفِّرَنَّ، وهذا القسم وجوابه خبر لهذا المبتدأ. وفي هذه الآية ونظائرها من قوله تعالى:{والذين جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}[العنكبوت: ٦٩] وقولِ الشاعر: [الكامل]
رَدٌّ على ثعلبٍ؛ حيث زعم أن الجملةَ القسميةَ لا تقع خبراً، وله أن يقول: هذه معمولة لقول مُضْمَر هو الخبرُ - وله نظائر.
والظاهرُ أن هذه الجُمَل - التي بعد الموصولِ - كُلَّها صِلات له، فلا يكون الخبرُ إلا لمن جمع بين هذه الصفاتِ: المهاجرة، والقَتْل، والقتال.
ويجوز أن يكون ذلك على التنويع، ويكون قد حَذف الموصولات لفَهْم المعنى وهو مذهب الكوفيين كما تقدم، والتقدير: فالذين هاجروا والذين أخْرِجوا، والذين قاتلوا: فيكون الخبر بقوله: {لأُكَفِّرَنَّ} عمن اتصف بواحدةٍ من هذه. وقرأ جمهورُ السبعة:«وَقَاتَلُوا وَقُتِلوا» ببناء للفاعلِ من المفاعَلةِ، والثاني للمفعول، وهي قراءة واضحة. وابنُ عامرٍ، وابن كثيرٍ كذلك، إلا أنهما شدَّدَا التاء من «قُتلوا» للتكثير،