وأيضاً: لقائل أن يقول: هَبْ أنَّا نجعلُ اسم الإنسان عبارة عن هذه الجثَّة، إلَاّ أنَّ قد دلَّلنا أنَّ محلَّ العلم والقدرة ليس هو الجثَّة.
والجواب عن الثالث: أنَّ الرِّزْقَ المذكور في الآية محمولٌ على ما يقوِّي حالهم ويكمل كمالهم، وهو معرفةُ الله ومحبَّته.
بل نقول: هذا من أدلِّ الدلائلِ على صحَّة قولنا؛ لأنَّ أبدانهم قد بليت في التُّراب، والله يقول: «إنَّ أرواحهم تأوي في قناديل معلقة تحت العرش» وهذا يدلُّ على أنَّ الروح غير البدن.
قوله: {وَمَآ أُوتِيتُم مِّن العلم إِلَاّ قَلِيلاً} .
أي: في جنب علم الله تعالى.
قال المفسِّرون: هذا خطابٌ لليهود، وذلك أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لمَّا قال لهم ذلك، قالوا: نحن مختصُّون بهذا الخطاب، أم أنت معنا؟ فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -:
«بل نحن وأنتم لم نؤت من العلم إلا قليلاً» ، فقالوا ما أعجب شأنك، يا محمد؛ ساعة تقول: {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [البقرة: ٢٦٩] . وساعة تقول هذا، فنزل قوله: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ} [لقمان: ٢٧] .
وما ذكروه ليس بلازمٍ؛ لأنَّ الشيء قد يكون قليلاً بالنِّسبة إلى علم الله تعالى، وبالنسبة غلى حقائق الأشياء، ولكنَّها كثيرة بالنسبة إلى الشَّهوات الجسمانيَّة، واللذَّات الجسدانية.
وقيل: هذا خطابٌ للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقيل: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعلم معنى الرُّوح، ولم يخبرْ به أحداً؛ لأنَّ ترك إخباره كان علماً لنُبوَّتهِ، وقد تقدَّم الكلام على ذلك، قال البغوي: الأصحُّ: أن الله تعالى استأثر بعلمه.
قوله: {مِّن العلم} : متعلق ب «أوتيتم» ، ولا يجوز تعلُّقه بمحذوفٍ على أنه ح ال من «قَلِيلاً» ؛ لأنَّه لو تأخَّر، لكان صفة؛ لأنَّ ما في حيِّز «إلَاّ» لا يتقدَّم عليها.
وقرأ عبد الله، والأعمش «ومَا أوتُوا» بضمير الغيبة.
قوله تعالى: {وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} الآية.
لما ذكر أنَّه ما آتاهم من العلم إلَاّ قليلاً، قال ها هنا: إنه لو شاء أن يأخذ منهم ذلك القليل، لقدر عليه، وذلك بأن يمحو حفظه من القلوب، وكتابته من الكتب، والمراد بالذي أوحينا إليك القرآن.