ومعلوم أن القلوب لا تخشع بتكرار إزالة النجاسة والماء المتغير، وهي محتاجة إلى التذكار والمواعظ لتنهض لطلب الآخرة، ومسائل الخلاف وإن كانت من علوم الشرع إلا أنها لا تنهض بكل المطلوب.
ومن لم يطلع على أسرار سِيَر السلف وحال الذي تمذهب له لم يمكنه سلوك طريقهم، وينبغي أن يعلم أن الطبع لص فإذا ترك مع أهل هذا الزمان سرق من طباعهم فصار مثلهم، وإذا نظر في سير القدماء زاحمهم وتأدب بأخلاقهم.
وقد كان بعض السلف يقول: حديث يرق له قلبي أحب إليَّ من مائة قضية من قضايا شريح (١)، وإنما قال هذا لأن رقة القلب مقصودة ولها أسباب.
• ومن ذلك: أنهم اقتصروا على علم المناظرة وأعرضوا عن حفظ المذهب وباقي علوم الشرع، فترى الفقيه المفتي يسأل عن آية أو حديث ولا يدري، وهذا غَبْن، فأين الأنفة من التقصير؟!
• ومن ذلك: أن المجادلة إنما وضعت ليبين الصواب، وقد كان مقصود السلف المناصحة بإظهار الحق، وقد كانوا ينتقلون من دليل إلى دليل، وإذا خفي على أحدهم شيء نبَّهه الآخر؛ لأن المقصود كان إظهار الحق، فصار هؤلاء إذا قاس الفقيه على أصل بعلة يظنها، فقيل له: ما الدليل على أن الحكم في الأصل معلل بهذه العلة؟ فقال: هذا الذي يظهر لي، فإن ظهر لكم ما هو أولى من ذلك فاذكروه. قال المعترض: لا يلزمني ذلك. ولقد صدق في أنه لا يلزمه، ولكن فيما ابتدع من الجدل، بل في باب النصح وإظهار الحق يلزمه!
(١) أخرجه أبو نعيم في الحلية (٥/ ١٠٢ - ١٠٣)، وذكره ابن الجوزي في صفة الصفوة (٢/ ٧٤).