وما زال بي حتى عرّفته أني اشتريتها من بعض تجار قيسارية الفاضل، فاستدعاه في الحال ودفعها إليه وأمره بإحضار ثمنها. ثم قال لي: لا تعد إلى لبس الجوخ، استهجانا له. فلما كانت هذه الحوادث وغلت الملابس دعت الضرورة أهل مصر إلى ترك أشياء مما كانوا فيه من الترفه، وصار معظم الناس يلبسون الجوخ، فتجد الأمير والوزير والقاضي ومن دونهم ممن ذكرنا لباسهم الجوخ، ولقد كان الملك الناصر فرج ينزل أحيانا إلى الإصطبل وعليه قجون من جوخ، وهو ثوب قصير الكمين والبدن، يخاط من الجوخ بغير بطانة من تحته ولا غشاء من فوقه، فتداول الناس لبسه، واجتلب الفرنج منه شيئا كثيرا لا توصف كثرته ومحل بيعه بهذا السوق، ويلي سوق الجوخيين هذا:
سوق الشرابشيين: وهذا السوق مما أحدث بعد الدولة الفاطمية، ويباع فيها الخلع التي يلبسها السلطان للأمراء والوزراء والقضاة وغيرهم، وإنما قيل له سوق الشرابشيين لأنه كان من الرسم في الدولة التركية أنّ السلطان والأمراء وسائر العساكر إنما يلبسون على رؤوسهم كلوتة صفراء مضرّبة تضريبا عريضا، ولها كلاليب بغير عمامة فوقها، وتكون شعورهم مضفورة مدلاة بدبوقة، وهي في كيس حرير إمّا أحمر أو أصفر، وأوساطهم مشدودة ببنود من قطن بعلبكيّ مصبوغ، عوضا عن الحوائص، وعليهم أقبية إمّا بيض أو مشجرة أحمر وأزرق، وهي ضيقة الأكمام على هيئة ملابس الفرنج اليوم، وإخفافهم من جلد بلغاريّ أسود، وفي أرجلهم من فوق الخف سقمان، وهو خف ثان، ومن فوق القبا كمران بحلق وأبزيم وصوالق بلغاري كبار يسع الواحد منها أكثر من نصف ويبة غلة، مغروز فيه منديل طوله ثلاثة أذرع، فلم يزل هذا زيهم منذ استولوا بديار مصر على الملك، من سنة ثمان وأربعين وستمائة، إلى أن قام في المملكة الملك المنصور قلاوون، فغيّر هذا الزيّ بأحسن منه، ولبسوا الشاشات، وأبطلوا لبس الكم الضيق، واقترح كل أحد من المنصورية ملابس حسنة، فلما ملك ابنه الأشرف خليل، جمع خاصكيته ومماليكه وتخير لهم الملابس الحسنة، وبدّل الكلوتات الجوخ والصفر، ورسم لجميع الأمراء أن يركبوا بين مماليكهم بالكلوتات الزركش والطرازات الزركش والكنابيش الزركش والأقبية الأطلس المعدني، حتى يميز الأمير بلبسه عن غيره، وكذلك في الملبوس الأبيض أن يكون رفيعا، واتخذ السروج المرصعة والأكوار المرصعة، فعرفت بالأشرفية، وكانت قبل ذلك سروجهم بقرابيس كبار شنعة، وركب كبار بشعة، فلما ملك ديار مصر السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، استجدّ العمائم الناصرية، وهي صغار.
فلما قام الأمير يلبغا العمريّ الخاصكيّ عمل الكلوتات اليلبغاوية، وكانت كبارا، واستجدّ الأمير سلار في أيام الملك الناصر محمد القباء الذي يعرف بالسلاري، وكان قبل ذلك يعرف ببغلو طاق، فلما تملك الملك الظاهر برقوق عمل هذه الكلوتات الجركسية، وهي أكبر من اليلبغاوية، وفيها عوج. وأما الخلع، فإن السلطان كان إذا أمّر أحدا من