الثالث: أنّ طينه من طين مسيل مياه مجتمعة من أمطار تمرّ على أراضي حرّة، ويظهر لك ذلك من عطرية روائح الطين إذا نديته بماء.
الرابع: غمورة ماء النيل، وشدّة جريته التي تكاد تقصف العمد إذا اعترضتها، وتدفع الأثقال العظيمة إذا عارضتها.
الخامس: بعد مبدأ خروجه من مصبه في البحر المالح، وقد تقدّم من طول مسافته ما لا نجده في نهر غيره من أنهار المعمور.
السادس: انحداره من علوّ فإن الجنوب مرتفع عن الشمال لا سيما إذا صار إلى الجنادل انحط من أعلى جبل مرتفع إلى وادي مصر.
وذكر ابن قتيبة في كتاب غريب الحديث من حديث جرير بن عبد الله البجليّ حين سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن منزله ببلنسة فذكره إلى أن قال: وماؤنا يمتنع أن يجري من علوّ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «خير الماء السنم» أي ما كان ظاهرا على وجه الأرض والسنم: الماء على وجه الأرض، وكل شيء علا شيئا فقد تسنمه مأخوذ من سنام البعير لعلوّه.
وقال بعض المفسرين في قوله تعالى: وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ
[المطففين/ ٢٧] أي يمزج بما ينزل من علوّ.
السابع: أنه يمرّ من الجنوب إلى الشمال فتستقبله ريح الشمال الطيبة دائما.
الثامن: من خفته في الوزن، وقد اعتبر ذلك غير مرّة مع غيره من المياه فخف عنها في الوزن.
التاسع: عذوبة طعمه وحسن أثره في هضم الغذاء وأحداره عن المعدة بحيث إنه يحدث بعد شربه جشاء، وهذه صفات إن كنت ممن مارس العلم الطبيعيّ، وعرف الطب فإنه يعظم عندك قدر ماء النيل، وتبين لك غزارة نفعه وكثرة محاسنه.
ويقال: إنّ ذا القرنين كتب كتابا فيه ما شاهده من عجائب الدنيا فضمنه كل أعجوبة، ثم قال في آخره: وليس ذلك بعجب بل العجب نيل مصر، وقال بعض الحكماء: لولا ما جعل الله في نيل مصر من حكمة الزيادة في زمن الصيف على التدريج حتى يتكامل ريّ البلاد، وهبوط الماء عنها عند بدء الزراعة لفسد إقليم مصر، وتعذر سكناه لأنه ليس فيه أمطار كافية، ولا عيون جارية تعم أرضه إلا بعض إقليم الفيوم، ولله در القائل:
واها لهذا النيل أيّ عجيبة ... بكر بمثل حديثها لا يسمع
يلقي الثرى في العام وهو مسلم ... حتى إذا ما ملّ عاد يودّع
مستقبل مثل الهلال فدهره ... أبدا يزيد كما يريد ويرجع