للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم يا غوثاه يردّد ذلك. فكتب إليه عمرو: من عبد الله عمرو بن العاص إلى أمير المؤمنين، أما بعد: فيا لبيك ثم يا لبيك، قد بعثت إليك بعير أوّلها عندك وآخرها عندي، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.

فبعث إليه بعير عظيمة، فكان أوّلها بالمدينة وآخرها بمصر يتبع بعضها بعضا. فلما قدمت على عمر رضي الله عنه، وسّع بها على الناس، ودفع إلى أهل كل بيت بالمدينة وما حولها بعيرا بما عليه من الطعام، وبعث عبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوّام وسعد بن أبي وقاص يقسّمونها على الناس، فدفعوا إلى أهل كل بيت بعيرا بما عليه من الطعام، ليأكلوا الطعام، ويأتدموا بلحمه، ويحتذوا بجلده، وينتفعوا بالوعاء الذي كان فيه الطعام فيما أرادوا من لحاف أو غيره. فوسّع الله بذلك على الناس، فلما رأى ذلك عمر رضي الله عنه، حمد الله وكتب إلى عمرو بن العاص أن يقدم عليه هو وجماعة من أهل مصر معه، فقدموا عليه. فقال عمر: يا عمرو، إنّ الله قد فتح على المسلمين مصر، وهي كثيرة الخير والطعام، وقد ألقى في روعي لما أحببت من الرفق بأهل الحرمين والتوسعة عليهم حين فتح الله عليهم مصر، وجعلها قوّة لهم ولجميع المسلمين، أن أحفر خليجا من نيلها حتى يسيل في البحر، فهو أسهل لما نريد من حمل الطعام إلى المدينة ومكة، فإن حمله الطهر يبعد، ولا نبلغ به ما نريد، فانطلق أنت وأصحابك فتشاوروا في ذلك حتى يعتدل فيه رأيكم، فانطلق عمرو فأخبر من كان معه من أهل مصر، فثقل ذلك عليهم وقالوا: نتخوف أن يدخل من هذا ضرر على مصر، فنرى أن تعظّم ذلك على أمير المؤمنين وتقول له: إنّ هذا أمر لا يعتدل ولا يكون ولا نجد إليه سبيلا. فرجع عمرو بذلك إلى عمر فضحك عمر رضي الله عنه حين رآه وقال:

والذي نفسي بيده لكأني أنظر إليك يا عمرو وإلى أصحابك حين أخبرتهم بما أمرنا به من حفر الخليج، فثقل ذلك عليهم وقالوا يدخل من هذا ضرر على أهل مصر، فنرى أن تعظّم ذلك على أمير المؤمنين وتقول له، إنّ هذا أمر لا يعتدل ولا يكون، ولا نجد إليه سبيلا.

فعجب عمرو من قول عمرو قال: صدقت والله يا أمير المؤمنين، لقد كان الأمر على ما ذكرت. فقال له عمر رضي الله عنه: انطلق بعزيمة مني حتى تجدّ في ذلك، ولا يأتي عليك الحول حتى تفرغ منه إن شاء الله تعالى.

فانصرف عمرو وجمع لذلك من الفعلة ما بلغ منه ما أراد، ثم احتفر الخليج في حاشية الفسطاط الذي يقال له خليج أمير المؤمنين، فساقه من النيل إلى القلزم، فلم يأت الحول حتى جرت فيه السفن، فحمل فيه ما أراد من الطعام إلى المدينة ومكة، فنفع الله بذلك أهل الحرمين، وسمي خليج أمير المؤمنين، ثم لم يزل يحمل فيه الطعام حتى حمل فيه بعد عمر بن عبد العزيز، ثم ضيعه الولاة بعد ذلك فترك وغلب عليه الرمل فانقطع، فصار منتهاه إلى ذنب التمساح من ناحية بطحاء القلزم.

<<  <  ج: ص:  >  >>