شيئا كان أعظم من عظيم الجدّ في بناء هذا الحصن، ومباكرة الصناع له في الأسحار حتى فرغوا منه، فإنهم كان يخرجون إليه من منازلهم في كلّ بكرة من تلقاء أنفسهم من غير استحثاث، لكثرة ما سخا به من بذل المال، فلما انقطع البناء لم ير أحد من الصناع التي كانت فيه مع كثرتها، كأنما هي نار صبّ عليها ماء فطفئت لوقتها، ووهب للصناع مالا جزيلا وترك لهم جميع ما كان سلفا معهم، وبلغ مصروف هذا الحصن ثمانين ألف دينار ذهبا.
وكان مما حمل أحمد بن طولون على بناء الحصن، أن الموفق أراد أن يشغل قلبه، فسرقت نعله من بيت حظية لا يدخله إلّا ثقاته، وبعث الموفق إليه. فقال له الرسول: من قدر على أخذ هذه النعل من الموضع الذي تعرفه، أليس هو بقادر على أخذ روحك، فو الله أيها الأمير لقد قام عليه أخذ هذه النعل بخمسين ألف دينار، فعند ذلك أمر ببناء الحصن.
وقال أبو عمر الكنديّ في كتاب أمراء مصر: وتقدّم أبو أحمد الموفق إلى موسى بن بغا في صرف أحمد بن طولون عن مصر وتقليدها ماخور التركيّ، فكتب موسى بن بغا بذلك إلى ماخور وهو والي دمشق يومئذ، فتوقف لعجزه عن مقاومة أحمد بن طولون، فخرج موسى بن بغا فنزل الرقة، وبلغ ابن طولون أنه سائر إليه، ولم يجد بدّا من محاربته، فأخذ أحمد بن طولون في الحذر منه وابتدأ في ابتناء الحصن الذي بالجزيرة التي بين الجسرين، ورأى أن يجعله معقلا لماله وحرمه، وذلك في سنة ثلاث وستين ومائتين، واجتهد أحمد بن طولون في بناء المراكب الحربية، وأطافها بالجزيرة، وأظهر الامتناع من موسى بن بغا بكل ما قدر عليه، وأقام موسى بن بغا بالرقة عشرة أشهر، وأحمد بن طولون في إحكام أموره، واضطربت أصحاب موسى بن بغا عليه وضاق بهم منزلهم، وطالبوا موسى بالمسير أو الرجوع إلى العراق، فبينا هو كذلك توفي موسى بن بغا في سنة أربع وستين ومائتين. وقال محمد بن داود لأحمد بن طولون وفين تحامل:
لما ثوى ابن بغا بالرقتين ملا ... ساقيه زرقا إلى الكعبين والعقب
بنى الجزيرة حصنا يستجن به ... بالعسف والضرب والصناع في تعب
وراقب الجيزة القصوى فخندقها ... وكاد يصعق من خوف ومن رعب
له مراكب فوق النيل راكدة ... فما سوى القار للنظار والخشب
ترى عليها لباس الذل مذ بنيت ... بالشطّ ممنوعة من عزّة الطلب
فما بناها لغزو الروم محتسبا ... لكن بناها غداة الروع والعطب