ولما شرعوا فيه ألزمهم المال من عندهم، فقسّط على جماعة، وفرغ من بنائه، فاتخذه الإخشيد منتزها له وصار يفاخر به أهل العراق، وكان نقل الصناعة من الجزيرة إلى ساحل النيل بمصر في شعبان خمس وعشرين وثلاثمائة، فلم يزل البستان المختار منتزها إلى أن زالت الدولة الإخشيدية والكافورية، وقدمت الدولة الفاطمية من بلاد المغرب إلى مصر، فكان يتنزه فيه المعز لدين الله معدّ، وابنه العزيز بالله نزار، وصارت الجزيرة مدينة عامرة بالناس، لها وال وقاض، وكان يقال القاهرة ومصر والجزيرة، فلما كانت أيام استيلاء الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش بدرا الجمالي، وحجره على الخلفاء، أنشأ في بحريّ الجزيرة مكانا نزها سماه الروضة، وتردّد إليها تردّدا كثيرا، فكان يسير في العشاريات الموكبيات من دار الملك التي كانت سكنه بمصر، إلى الروضة. ومن حينئذ صارت الجزيرة كلها تعرف بالروضة، فلما قتل الأفضل بن أمير الجيوش، واستبدّ الخليفة الآمر بأحكام الله أبو عليّ منصور بن المستعلي بالله، أنشأ بجوار البستان المختار من جزيرة الروضة مكانا لمحبوبته العالية البدوية، سماه الهودج.
الهودج: قال ابن سعيد في كتاب المحلّى بالأشعار عن تاريخ القرطبيّ: قد أكثر الناس في حديث البدوية وابن مياح من بني عمها وما يتعلق بذلك من ذكر الخليفة الآمر بأحكام الله، حتى صارت رواياتهم في هذا الشأن كأحاديث البطال وألف ليلة وليلة وما أشبه ذلك، والاختصار منه أن يقال أنّ الخليفة الآمر كان قد ابتلى بعشق الجواري العربيات، وصارت له عيون في البوادي، فبلغه أن بالصعيد جارية من أكمل العرب وأظرف نسائهم، شاعرة جميلة، فيقال أنه تزيا بزيّ بداة الأعراب وصار يجول في الأحياء إلى أن انتهى إلى حيها، وبات هناك في ضائفة، وتحيل حتى عاينها، فما ملك صبره، ورجع إلى مقرّ ملكه وسرير خلافته، فأرسل إلى أهلها يخطبها فأجابوه إلى ذلك وزوّجوها منه، فلما صارت إلى القصور صعب عليها مفارقة ما اعتادت، وأحبت أن تسرّج طرفها في الفضاء ولا تقبض نفسها تحت حيطان المدينة، فبنى لها البناء المشهور في جزيرة الفسطاط المعروف بالهودج، وكان على شاطيء النيل في شكل غريب، وكان بالإسكندرية القاضي مكين الدولة أبو طالب أحمد بن عبد المجيد بن أحمد بن الحسن بن حديد، قد استولى على أمورها وصار قاضيها وناظرها، ولم يبق لأحد معه فيها كلام، وضمن أموالها بحملة يحملها، وكان ذا مروءة عظيمة يحتذي أفعال البرامكة، وللشعراء فيه مدائح كثيرة، وممن مدحه ظافر الحدّاد، وأمية بن أبي الصلت، وجماعة، وكان الأفضل بن أمير الجيوش إذا أراد الاعتناء بأحد كتب معه كتابا إلى ابن حديد هذا، فيغنيه بكثرة عطائه، وكان له بستان يتفرّج فيه، به جرن كبير من رخام قطعة واحدة، ينحدر فيه الماء فيبقى كالبركة من سعته، وكان يجد في نفسه برؤية هذا الجرن زيادة على أهل النعم، ويباهي به أهل عصره، فوشي به للبدوية محبوبة الخليفة، فطلبته من الخليفة، فأنفذ في الحال بإحضاره، فلم يسع ابن حديد إلّا أن قلعه من مكانه