للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والسياسة نوعان: سياسة عادلة تخرج الحق من الظالم الفاجر، فهي من الأحكام الشرعية، علمها من علمها، وجهلها من جهلها. وقد صنف الناس في السياسة الشرعية كتبا متعدّدة. والنوع الآخر سياسة ظالمة، فالشريعة تحرّمها وليس ما يقوله أهل زماننا في شيء من هذا، وإنما هي كلمة مغليّة، أصلها ياسه، فحرّفها أهل مصر وزادوا بأوّلها سينا فقالوا سياسة، وأدخلوا عليها الألف واللام فظنّ من لا علم عنده أنها كلمة عربية، وما الأمر فيها إلّا ما قلت لك.

واسمع الآن كيف نشأت هذه الكلمة حتى انتشرت بمصر والشام. وذلك أن جنكز خان القائم بدولة التتر في بلاد الشرق، لما غلب الملك أونك خان وصارت له دولة، قرّر قواعد وعقوبات أثبتها في كاتب، سمّاه ياسه، ومن الناس من يسميه يسق، والأصل في اسمه ياسه، ولما تمم وضعه كتب ذلك نقشا في صفائح الفولاذ، وجعله شريعة لقومه فالتموه بعده حتى قطع الله دابرهم. وكان جنكز خان لا يتدين بشيء من أديان أهل الأرض، كما تعرف هذا إن كنت أشرفت على أخباره، فصار الياسه حكما بتّا بقي في أعقابه لا يخرجون عن شيء من حكمه.

وأخبرني العبد الصالح الداعي إلى الله تعالى، أبو هاشم أحمد بن البرهان، رحمه الله:

أنه رأى نسخة من الياسة بخزانة المدرسة المستنصرية ببغداد، ومن جملة ما شرعه جنكزخان في الياسه أن: من زنى قتل، ولم يفرق بين المحصن وغير المحصن. ومن لاط قتل، ومن تعمّد الكذب أو سحر أو تجسس على أحد، أو دخل بين اثنين وهما يتخاصمان وأعان أحد هما على الآخر قتل. ومن بال في الماء أو على الرماد قتل. ومن أعطي بضاعة فخسر فيها فإنه يقتل بعد الثالثة. ومن أطعم أسير قوم أو كساه بغير إذنهم قتل ومن وجد عبدا هاربا أو أسيرا قد هرب ولم يردّه على من كان في يده قتل. وأنّ الحيوان تكتّف قوائمه ويشقّ بطنه ويمرس قلبه إلى أن يموت ثم يؤكل لحمه. وأنّ من ذبح حيوانا كذبيحة المسلمين ذبح.

ومن وقع حمله أو قوسه أو شيء من متاعه وهو يكرّ أو يفرّ في حالة القتال وكان وراءه أحد، فإنه ينزل ويناول صاحبه ما سقط منه، فإن لم ينزل ولم يناوله قتل. وشرط أن لا يكون على أحد من ولد عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه مؤنة ولا كلفة، وأن لا يكون على أحد من الفقراء ولا القرّاء ولا الفقهاء ولا الأطباء ولا من عداهم من أرباب العلوم وأصحاب العبادة والزهد والمؤذنين ومغسلي الأموات كلفة ولا مؤنة، وشرط تعظيم جميع الملل من غير تعصب لملة على أخرى، وجعل ذلك كله قربة إلى الله تعالى، وألزم قومه أن لا يأكل أحد من يد أحد حتى يأكل المناول منه أوّلا، ولو أنه أمير، ومن يناوله أسير. وألزمهم أن لا يتخصص أحد بأكل شيء وغيره يراه، بل يشركه معه في أكله. وألزمهم أن لا يتميز أحد منهم بالشبع على أصحابه، ولا يتخطى أحد نارا ولا مائدة ولا الطبق الذي يؤكل عليه، وأنّ

<<  <  ج: ص:  >  >>