فرس مهنا، وقد ركبها البدويّ عريا بغير سرج، فأقبلت سائر الخيول تتبعها حتى وصلت المدى وهي عري بغير سرج، والبدويّ عليها بقميص وطاقية، فلما وقفت بين يدي السلطان صاح البدويّ: السعادة لك اليوم يا مهنا، لا شقيت. فشق على السلطان أن خيله سبقت، وأبطل التضمير من خيله، وصارت الأمراء تضمر على عادتها، ومات الناصر محمد عن أربعة آلاف وثمانمائة فرس، وترك زيادة على خمسة آلاف من الهجن الأصائل والنوق المهريات والقرشيات، سوى أتباعها. وبطل بعده السباق، فلما كانت أيام الظاهر برقوق عني بالخيل أيضا ومات عن سبعة آلاف فرس وخمسة عشر ألف جمل.
ديوان الإنشاء: وكان بجوار قاعة الصاحب بقلعة الجبل ديوان الإنشاء، يجلس فيه كاتب السرّ، وعنده موقعو الدرج وموقعو الدست في أيام المواكب طول النهار، ويحمل إليهم من المطبخ السلطانيّ المطاعم، وكانت الكتب الواردة وتعليق ما يكتب من الباب السلطانيّ موضوعة بهذه القاعة، وأنا جلست بها عند القاضي بدر الدين محمد بن فضل الله العمريّ أيام مباشرتي التوقيع السلطانيّ، إلى نحو السبعين والسبعمائة، فلما زالت دولة الظاهر برقوق ثم عادت اختلت أمور كثيرة منها أمر قاعة الإنشاء بالقلعة، وهجرت وأخذ ما كان فيها من الأوراق، وبيعت بالقنطار، ونسي رسمها، وكتابة السرّ رتبة قديمة، ولها أصل في السنّة، فقد خرّج أبو بكر عبد الله بن أبي داود سليمان بن الأشعث السجستانيّ في كتاب المصاحف من حديث الأعمش، عن ثابت بن عبيد عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنها تأتيني كتب لا أحب أن يقرأها كلّ أحد، فهل تستطيع أن تعلّم كتاب العبرانية أو قال السريانية» فقلت نعم. قال: فتعلمتها في سبع عشرة ليلة، ولم يزل خلفاء الإسلام يختارون لكتابة سرّهم الواحد بعد الواحد، وكان موضوع كتابة السرّ في الدولة التركية على ما استقرّ عليه الأمر في أيام الناصر محمد بن قلاون، أنّ لمتوليها المسمى بكاتب السرّ وبصاحب ديوان الإنشاء، ومن الناس من يقول ناظر ديوان الإنشاء، قراءة الكتب الواردة على السلطان وكتابة أجوبتها، إما بخطه أو بخط كتاب الدست أو كتاب الدرج بحسب الحال، وله تفسير الأجوبة بعد أخذ علامة السلطان عليها، وله تصريف المراسيم ورودا وصدورا، وله الجلوس بين يدي السلطان بدار العدل لقراءة القصص والتوقيع عليها بخطه في المجلس. فصار يوقع فيما كان يوقع عليه بقلم الوزارة، وصار إليه التحدّث في مجلس السلطان عند عقد المشورة وعند اجتماع الحكام لفصل أمر مهم، وله التوسط بين الأمراء والسلطان فيما يندب إليه عند الاختلاف أو التدبير، وإليه ترجع أمور القضاة ومشايخ العلم ونحوهم في سائر المملكة مصرا وشاما، فيمضي من أمورهم ما أحب ويشاور السلطان فيما لا بدّ من مشاورته فيه، وكانت العادة أن يجلس تحت الوزير، فلما عظم، تمكن القاضي فتح الدين فتح الله كاتب السرّ من الدولة، جلس فوق الوزير الصاحب سعد الدين إبراهيم البشيري، فاستمرّ ذلك لمن بعده ورتبة كاتب السرّ