فإن الدولة العباسية صار خلفاؤها في أوّل أمرهم منذ عهد أبي العباس السفاح إلى أيام هارون الرشيد يستبدّون بأمورهم، فلما صارت الخلافة إلى هارون ألقى مقاليد الأمور إلى يحيى بن جعفر البرمكيّ، فصار يحيى يوقع على رقاع الرافعين بخطه في الولايات وإزالة الظلامات وإطلاق الأرزاق والعطيات، فجلّت لذلك رتبته، وعظمت من الدولة مكانته، وكان هو أوّل من وقع من وزراء خلفاء بني العباس، وصار من بعده من الوزراء يوقعون على القصص كما كان يوقع، وربما انفرد رجل بديوان السرّ وديوان الترسل، ثم أفردت في أخريات دولة بني العباس واستقلّ بها كتاب لم يبلغوا مبلغ الوزراء، وكانوا ببغداد يقال لهم كتاب الإنشاء، وكبيرهم يدعى رئيس ديوان الإنشاء، ويطلق عليه تارة صاحب ديوان الإنشاء، وتارة كاتب السرّ، ومرجع هذا الديوان إلى الوزير، وكان يقال له الديوان العزيز، وهو الذي يخاطبه الملوك في مكاتبات الخلفاء. وكان في الدولة السلجوقية يسمى ديوان الإنشاء بديوان الطغرا، وإليه ينسب مؤيد الدين الطغراءي والطغراهي طرّة المكتوب، فيكتب أعلى من البسملة بقلم غليظ القاب الملك، وكانت تقوم عندهم مقام خط السلطان بيده على المناشير والكتب، ويستغني بها عن علامة السلطان، وهي لفظة فارسية، وفي بلاد المغرب يقال لرئيس ديوان الإنشاء صاحب القلم الأعلى، وأما مصر فإنه كان بها في القديم لما كانت دار إمارة ديوان البريد، ويقال لمتوليه صاحب البريد، وإليه مرجع ما يرد من دار الخلافة على أيدي أصحاب البريد من الكتب، وهو الذي يطالع بأخبار مصر، وكان لأمراء مصر كتاب ينشئون عنهم الكتب والرسائل إلى الخليفة وغيره، فلما صارت مصر دار خلافة كان القائد جوهر يوقع على قصص الرافعين إلى أن قدم المعز لدين الله، فوقع وجعل أمر الأموال وما يتعلق بها إلى يعقوب بن كلس، وعسلوج بن الحسن، فوليا أموال الدولة، ثم فوّض العزيز بالله أمر الوزارة ليعقوب بن كلس، فاستبدّ بجميع أحوال المملكة، وجرى مجرى يحيى بن جعفر البرمكيّ، وكان يوقع.
ومع ذلك ففي أمراء الدولة من يلي البريد، وجرى الأمر فيما بعد على أن الوزراء يوقعون، وقد يوقع الخليفة بيده، فلما كانت أيام المستنصر بالله أبي تميم معدّ بن الظاهر وصرف أبا جعفر محمد بن جعفر بن المغربيّ عن وزارته، أفرد له ديوان الإنشاء فوليه مدّة طويلة، وأدرك أيام أمير الجيوش بدر الجماليّ، وصار يلي ديوان الإنشاء بعده الأكابر إلى أن انقرضت الدولة، وهو بيد القاضي الفاضل عبد الرحيم بن عليّ البيساني، فاقتدت بهم الدولة الأيوبية، ثم الدولة التركية في ذلك، وصار الأمر على هذا إلى اليوم، وصار متولي رتبة كتابة السرّ أعظم أهل الدولة، إلّا أنه في الدولة التركية يكون معه من الأمراء واحد يقال له الدوادار، منزلته منزلة صاحب البريد في الزمن الأوّل، ومنزلة كاتب السرّ منزلة صاحب ديوان الإنشاء، إلّا أنّه يتميز بالتوقيع على القصص، تارة بمراجعة السلطان وتارة بغير