فقط وما بين جدّة ومكة من البرّ، وخطة بلاد الجبة مع ذلك واسعة مستطيلة على الساحل، أوّلها عيذاب، وهي محاذية لمدينة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتميل عنها في الجنوب ميلا قليلا، والمدينة شامية عن مكة بنحو عشرة أيام، وآخر بلاد البجة من ناحية الجنوب سواكن، وهي مائلة في ناحية الجنوب عن مكة ميلا كثيرا، وهذا المقدار من طول بلاد البجة يزيد على الجزء الذي يخص هذه الخطة من الأرض لو وزعت الأرض أجزاء متساوية إلى الكعبة، فيتعين والحالة هذه التيامن أو التياسر في طرفي هذه البلاد لطلب جهة الكعبة.
وأما إذا بعد القطر عن الكعبة بعدا كثيرا، فإنه لا يضرّ اتساع خطته، ولا يحتاج فيه إلى تيامن ولا تياسر، لاتساع الجزء الذي يخصه من الأرض، فإن كلّ قطر منها له جزء يخصه من الكعبة، من أجل أن الكعبة من البلاد المعمورة كالكرة من الدائرة، فالأقطار كلها في استقبال الكعبة، محيطة بها كاحاطة الدائرة بمركزها، وكل قطر فإنه يتوجه إلى الكعبة في جزء يخصه، والأجزاء المنقسمة إذا قدّرت الأرض كالدائرة فإنها تتسع عند المحيط وتتضايق عند المركز، فإذا كان القطر بعيدا عن الكعبة فإنه يقع في متسع الحدّ ولا يحتاج فيه إلى تيامن ولا تياسر، وبخلاف ما إذا قرب القطر من الكعبة، فإنه يقع في متضايق الجزء ويحتاج عند ذلك إلى تيامن أو تياسر، فإنّ فرضنا أن الواجب إصابة عين الكعبة في استقبال الصلاة لمن بعد عن مكة، وقد علمت ما في هذه المسألة من الاختلاف بين العلماء، فإنه لا يتسامح في اختلاف المحاريب بأكثر من قدر التيامن والتياسر الذي لا يخرج عن حدّ الجهة، فلو زاد الاختلاف حكم ببطلان أحد المحرابين، ولا بدّ اللهمّ إلّا أن يكونا في قطرين بعيدين بعضهما من بعض، وليسا على خط واحد من مسامته الكعبة، وذلك كبلاد الشام وديار مصر، فإن البلاد الشامية لها جانبان وخطتها متسعة مستطيلة في شمال مكة، وتمتدّ أكثر من الجزء الخاص بها بالنسبة إلى مقدار بعدها عن الكعبة، ووفي هذين القطرين يجري ما تقدّم ذكره في أرض البجة، إلّا أنّ التيامن والتياسر ظهوره في البلاد الشامية أقل من ظهوره في أرض البجة، من أجل بعد البلاد الشامية عن الكعبة، وقرب أرض البجة، وذلك أن البلاد الشامية وقعت في متسع الجزء الخاص بها، فلم يظهر أثر التيامن والتياسر ظهورا كثيرا كظهوره في أرض البجة، لأنّ البلاد الشامية لها جانب شرقيّ وجانب غربيّ ووسط، فجانبها الغربيّ هو أرض بيت المقدس وفلسطين إلى العريش، أوّل حدّ مصر، وهذا الجانب من البلاد الشامية يقابل الكعبة على حدّ مهب النكباء التي بين الجنوب والصبا، وأمّا جانب البلاد الشامية الشرقيّ، فإنه ما كان مشرّقا عن مدينة دمشق إلى حلب والفرات، وما يسامت ذلك من بلاد الساحل، وهذه الجهة تقابل الكعبة مشرقا عن أوسط مهب الجنوب قليلا، وأما وسط بلاد الشام فإنها دمشق وما قاربها، وتقابل الكعبة على وسط مهب الجنوب، وهذا هو سمت مدينة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع ميل يسير عنه إلى ناحية المشرق.
وأما مصر فإنها تقابل الكعبة فيما بين الصبا ومهب النكباء التي بين الصبا والجنوب،