بهذه المدرسة جملة عظيمة من الكتب في سائر العلوم، يقال أنها كانت مائة ألف مجلد، وذهبت كلها. وكان أصل ذهابها أن الطلبة التي كانت بها، لما وقع الغلاء بمصر في سنة أربع وتسعين وستمائة، والسلطان يومئذ الملك العادل كتبغا المنصوريّ، مسهم الضرّ، فصاروا يبيعون كلّ مجلد برغيف خبز حتى ذهب معظم ما كان فيها من الكتب، ثم تداولت أيدي الفقهاء عليها بالعارية، فتفرّقت، وبها إلى الآن مصحف قرآن كبير القدر جدّا، مكتوب بالخط الأوّل الذي يعرف بالكوفيّ، تسميه الناس مصحف عثمان بن عفان، ويقال أن القاضي الفاضل اشتراه بنيف وثلاثين ألف دينار، على أنه مصحف أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، وهو في خزانة مفردة له بجانب المحراب من غريبه، وعليه مهابة وجلالة، وإلى جانب المدرسة كتّاب برسم الأيتام، وكانت هذه المدرسة من أعظم مدارس القاهرة وأجلها، وقد تلاشت لخراب ما حولها.
عبد الرحيم: بن عليّ بن الحسن بن أحمد بن الفرج بن أحمد القاضي الفاضل محيي الدين أبو عليّ ابن القاضي الأشرف اللخميّ العسقلانيّ البيسانيّ المصريّ الشافعيّ، كان أبوه يتقلد قضاء مدينة بيسان، فلهذا نسبوا إليها، وكانت ولادته بمدينة عسقلان في خامس عشر جمادى الآخرة سنة تسع وعشرين وخمسمائة، ثم قدم القاهرة وخدم الموفق يوسف بن محمد بن الجلال، صاحب ديوان الإنشاء في أيام الحافظ لدين الله، وعنه أخذ صناعة الإنشاء، ثم خدم بالإسكندرية مدّة، فلما قام بوزارة مصر العادل رزيك بن الصالح طلائع بن رزيك، خرج أمره إلى والي الإسكندرية بتسييره إلى الباب، فلما حضر استخدمه بحضرته وبين يديه في ديوان الجيش، فلما مات الموفق بن الجلال في سنة ست وستين وخمسمائة، وكان القاضي الفاضل ينوب عنه في ديوان الإنشاء، عينه الكامل بن شاور وسعى له عند أبيه الوزير شاور بن مجير، فأقرّه عوضا عن ابن الجلال في ديوان الإنشاء، فلما ملك أسد الدين شيركوه احتاج إلى كاتب فأحضره، وأعجبه اتقائه وسمته ونصحه، فاستكتبه إلى أن ملك صلاح الدين يوسف بن أيوب، فاستخلصه وحسن اعتقاده فيه، فاستعان به على ما أراد من إزالة الدولة الفاطمية حتى تم مراده، فجعله وزيره ومشيره، بحيث كان لا يصدر أمرا إلا عن مشورته، ولا ينفذ شيئا إلا عن رأيه، ولا يحكم في قضية إلا بتدبيره، فلما مات صلاح الدين استمرّ على ما كان عليه عند ولده الملك العزيز عثمان في المكانة والرفعة، وتقلد الأمر، فلما مات العزيز وقام من بعده ابنه الملك المنصور بالملك ودبر أمره عمه الأفضل، كان معهما على حاله إلى أن وصل الملك العادل أبو بكر بن أيوب من الشام لأخذ ديار مصر، وخرج الأفضل لقتاله، فمات منكوبا أحوج ما كان إلى الموت عند تولى الإقبال وإقبال الإدبار في سحر يوم الأربعاء سابع عشر ربيع الآخر سنة ست وتسعين وخمسمائة، ودفن بتربته من القرافة الصغرى.
قال ابن خلكان وزر للسلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، وتمكن منه غاية