للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

التمكن، وبرز في صناعة الإنشاء وفاق المتقدّمين، وله فيه الغرائب مع الإكثار. أخبرني أحد الفضلاء الثقات المطلعين على حقيقة أمره، أنّ مسودّات رسائله في المجلدات والتعليقات في الأوراق، إذا جمعت ما تقصر عن مائة، وهو مجيد في أكثرها. وقال عبد اللطيف البغداديّ: دخلنا عليه فرأيت شيخا ضئيلا كله رأس وقلب، وهو يكتب ويملى على اثنين، ووجهه وشفتاه تلعب ألوان الحركات لقوّة حرصه في إخراج الكلام، وكأنه يكتب بجملة أعضائه، وكان لغرام في الكتابة وتحصيل الكتب، وكان له الدين والعفاف والتقى والمواظبة على أوراد الليل، والصيام وقراءة القرآن، وكان قليل اللذات كثير الحسنات دائم التهجد، ويشتغل بعلوم الأدب وتفسير القرآن، غير أنه كان خفيف البضاعة من النحو، ولكن قوّة الدراية توجب له قلة اللحن، وكان لا يكاد يضيع من زمانه شيئا إلّا في طاعة، وكتب في الإنشاء ما لم يكتبه غيره.

وحكى لي ابن القطان أحد كتابه قال: لما خطب صلاح الدين بمصر للإمام المستضيء بأمر الله، تقدّم إلى القاضي الفاضل بأن يكاتب الديوان العزيز وملوك الشرق، ولم يكن يعرف خطابهم واصطلاحهم، فأوغر إلى العماد الكاتب أن يكتب، فكتب واحتفل وجاء بها مفضوضة ليقرأها الفاضل متبجحا بها فقال: لا أحتاج أن أقف عليها، وأمر بختمها وتسليمها إلى النجاب والعماد يبصر. قال: ثم أمرني أن ألحق النجاب ببلبيس وأن أفض الكتب وأكتب صدورها ونهايتها، ففعلت ورجعت بها إليه، فكتب على حذوها وعرضها على السلطان فارتضاها وأمر بإرسالها إلى أربابها مع النجاب، وكان متقللا في مطعمه ومنكحه وملبسه، ولباسه البياض لا يبلغ جميع ما عليه دينارين، ويركب معه غلام وركابيّ، ولا يمكن أحدا أن يصحبه، ويكثر زيارة القبور وتشييع الجنائز وعيادة المرضى، وله معروف في السرّ والعلانية، وأكثر أوقاته يفطر بعد ما يتهوّر الليل، وكان ضعيف البنية رقيق الصورة له حدبة يغطيها الطيلسان، وكان فيه سوء خلق يكمد به في نفسه ولا يضرّ أحدا به، ولأصحاب الأدب عنده نفاق يحسن إليهم ولا يمنّ عليهم، ويؤثر أرباب البيوت والغرباء، ولم يكن له انتقام من أعدائه إلا بالإحسان إليهم أو بالإعراض عنهم، وكان دخله في كلّ سنة من إقطاع ورباع وضياع خمسين ألف دينار سوى متاجره للهند والمغرب وغيرهما، وكان يقتني الكتب من كل فنّ ويجتلبها من كل جهة، وله نسّاخ لا يفترون، ومجلدون لا يبطلون. قال لي بعض من يخدمه في الكتب: أنّ عددها قد بلغ مائة ألف وأربعة وعشرين ألفا، وهذا قبل موته بعشرين سنة. وحكى لي ابن صورة الكتبيّ: أن ابنه القاضي الأشرف التمس مني أن أطلب له نسخة الحماسة ليقرأها، فأعلمت القاضي الفاضل، فاستحضر من الخادم الحماسات، فأحضر له خمسا وثلاثين نسخة، وصار ينفض نسخة نسخة ويقول: هذه بخط فلان، وهذه عليها خط فلان، حتى أتى على الجميع وقال: ليس فيها ما يصلح للصبيان، وأمرني أن أشتري له نسخة بدينار.

<<  <  ج: ص:  >  >>