ليالي كثيرة بقرافة الفسطاط، وهي في شرقيها بها منازل الأعيان بالفسطاط والقاهرة، وقبور عليها مبان معتنى بها، وفيها القبة العالية العظيمة المزخرفة التي فيها قبر الإمام الشافعيّ رضي الله عنه، وبها مسجد جامع وترب كثيرة عليها أوقاف للقرّاء، ومدرسة كبيرة للشافعية، ولا تكاد تخلو من طرب، ولا سيما في الليالي المقمرة، وهي معظم مجتمعات أهل مصر، وأشهر منتزهاتهم وفيها أقول:
إنّ القرافة قد حوت ضدّين من ... دنيا وأخرى فهي نعم المنزل
يغشى الخليع بها السماع مواصلا ... ويطوف حول قبورها المتبتل
كم ليلة بتنا بها ونديمنا ... لحن يكاد يذوب منه الجندل
والبدر قد ملأ البسيطة نوره ... فكأنما قد فاض منه جدول
وبدا يضاحك أوجها حاكينه ... لما تكامل وجهه المتهلل
وفوق القرافة من شرقيها جبل المقطم، وليس له علوّ ولا عليه اخضرار، وإنما يقصد للبركة، وهو نبيه الذكر في الكتب، وفي سفحه مقابر أهل الفسطاط والقاهرة، والإجماع على أنه ليس في الدنيا مقبرة أعجب منها ولا أبهى ولا أعظم ولا أنظف من أبنيتها وقبابها وحجرها، ولا أعجب تربة منها، كأنها الكافور والزعفران مقدّسة في جميع الكتب، وحين تشرف عليها تراها كأنها مدينة بيضاء، والمقطم عال عليها كأنه حائط من ورائها، وقال شافع بن عليّ:
تعجبت من أمر القرافة إذ غدت ... على وحشة الموتى لها قلبنا يصبو
فألفيتها مأوى الأحبة كلهم ... ومستوطن الأحباب يصبو له القلب
وقال الأديب أبو سعيد محمد بن أحمد العميديّ:
إذا ما ضاق صدري لم أجد لي ... مقرّ عبادة إلّا القرافه
لئن لم يرحم المولى اجتهادي ... وقلة ناصري لم ألف رأفه
واعلم أن الناس في القديم إنما كانوا يقبرون موتاهم فيما بين مسجد الفتح وسفح المقطم، واتخذوا الترب الجليلة أيضا فيما بين مصلّى خولان وخط المغافر التي موضعها الآن كيمان تراب، وتعرف الآن بالقرافة الكبرى. فلما دفن الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب ابنه في سنة ثمان وستمائة بجوار قبر الإمام محمد بن إدريس الشافعيّ، وبنى القبة العظيمة على قبر الشافعيّ، وأجرى لها الماء من بركة الحبش بقناطر متصلة منها، نقل الناس الأبنية من القرافة الكبرى إلى ما حول الشافعيّ، وأنشأوا هناك الترب، فعرفت بالقرافة الصغرى، وأخذت عمائرها في الزيادة وتلاشى أمر تلك، وأما القطعة التي تلي قلعة الجبل فتجدّدت بعد السبعمائة من سني الهجرة، وكان ما بين قبة الإمام الشافعيّ، رحمة الله