وبالصعيد بقايا سحر قديم، حكى الأمير طقطبا والي قوص في أيام الناصر محمد بن قلاون قال: أمسكت امرأة ساحرة، فقلت لها: أريد أن أبصر شيئا من سحرك؟ فقالت:
أجود عملي أن أسحر العقرب على اسم شخص بعينه، فلا بدّ أن تقع عليه ويصيبه سمها، فتقتله. فقلت: أريني هذا واقصديني بسحرك؟ فأخذت عقربا وعملت ما أحبت، ثم أرسلت العقرب فتبعني! وأنا أتنحى عنه، وهو يقصدني فجلست على تخت وضعته على بركة ماء، فأقبل العقرب إلى ذلك الماء، وأخذ في التوصل إليّ، فلم يطق ذلك، فمرّ إلى الحائط وصعد فيه، وأنا أشاهده، حتى وصل إلى السقف ومرّ فيه إلى أن صار فوقي وألقى نفسه صوبي، وسعى نحوي حتى قرب مني، فضربته فقتلته، ثم قتلت الساحرة أيضا.
وأرض الصعيد كثيرة المواشي من الضأن وغير ذلك لكثرة نتاجه، حتى أن الرأس الواحد من نعاج الضأن، يتولد عنه في عشر سنين، ألف وأربع وعشرون رأسا! وذلك بتقدير السلامة، وأن تلد كلها أناثا، وتلدّ مرّة واحدة في كل سنة، ولا تلد في كل بطن غير رأس واحد، وإلا فإن ولدت في السنة مرّتين، وكان في كل بطن رأسان تضاعف العدد، وتأمل حساب ما قلناه تجده صحيحا، وقد شوهد كثيرا أنّ من أغنام الصعيد، ما يلد في السنة ثلاث مرّات ويلد في البطن الواحد، ثلاثة أرؤس.
وكانت الكثرة والغلبة ببلاد الصعيد لست قبائل، وهم: بنو هلال، وبلى، وجهينة، وقريش، ولواته، وبنو كلاب، وكان ينزل مع هؤلاء عدّة قبائل سواهم من الأنصار، ومن مزينة، وبني دراج وبني كلاب وثعلبة وجذام.
وبلغ من عمارة الصعيد، أن الرجل في أيام الناصر، محمد بن قلاون، وما بعدها كان يمرّ من القاهرة إلى أسوان، فلا يحتاج إلى نفقة، بل يجد بكل بلد وناحية، عدّة دور للضيافة، إذا دخل دارا منها، أحضر لدابته علفها، وجيء له بما يليق به من الأكل ونحوه، وآل أمره الآن إلى أن لا يجد الرجل أحدا فيما بين القاهرة وأسوان يضيفه لضيق الحال، ثم تلاشى أمر بلاد الصعيد منذ سنة الشراقي في أيام الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاون سنة ست وسبعين وسبعمائة، وتزايد تلاشيه في أيام الظاهر برقوق لجور الولاة، ولم يزل في إدبار، إلى أن كانت سنة ست وثمانمائة، وشرقت مصر بقصور مدّ النيل، فدهي أهل الصعيد من ذلك بما لا يوصف، حتى أنه مات من مدينة قوص سبعة عشر ألف إنسان، وذلك كله سوى الطرحى على الطرقات، ومن لا يعرف من الغرباء ونحوهم، ثم دمّر في أيام المؤيد شيخ، فلم يبق منه إلا رسوم تبذل الولاة الجهد في محوها، نسأل الله حسن الخاتمة.