واتهم في هذه النوبة عدّة من أعيان المصريين بممالأة الفرنج ومكاتبتهم، وقبض عليهم الملك الناصر، وقتلهم.
وكان سبب هذه النوبة أنّ الغزو لما قدموا إلى مصر من الشام صحبة أسد الدين شيركوه، تحرّك الفرنج لغزو ديار مصر، خشية من تمكن الغزو بها، فاستمدّوا إخوانهم أهل صقلية، فأمدّوهم بالأموال والسلاح، وبعثوا إليهم بعدّة وافرة، فساروا بالدبابات والمجانيق، ونزلوا على دمياط في صفر، وهم في العدّة التي ذكرنا من المراكب، وأحاطوا بها بحرا وبرّا، فبعث السلطان بابن أخيه تقيّ الدين عمرو، وأتبعه بالأمير شهاب الدين الحازميّ في العساكر إلى دمياط، وأمدّهما بالأموال والميرة والسلاح، واشتدّ الأمر على أهل دمياط، وهم ثابتون على محاربة الفرنج.
فسيّر صلاح الدين إلى نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام يستنجده، ويعلمه بأنه لا يمكنه الخروج من القاهرة إلى لقاء الفرنج خوفا من قيام المصريين عليه، فجهز إليه العساكر شيئا بعد شيء، وخرج نور الدين من دمشق بنفسه إلى بلاد الفرنج التي بالساحل، وأغار عليها واستباحها، فبلغ ذلك الفرنج، وهم على دمياط، فخافوا على بلادهم من نور الدين، أن يتمكن منها، فرحلوا عن دمياط في الخامس والعشرين من ربيع الأوّل بعد ما غرق لهم نحو الثلاثمائة مركب، وقلّت رجالهم بفناء وقع فيهم، وأحرقوا ما ثقل عليهم حمله من المنجنيقات وغيرها، وكان صلاح الدين يقول: ما رأيت أكرم من العاضد! أرسل إليّ مدّة مقام الفرنج عل دمياط: ألف ألف دينار سوى ما أرسله إليّ من الثياب وغيرها.
وفي سنة سبع وسبعين وخمسمائة رتبت المقاتلة على البرجين، وشدّت مراكب إلى السلسلة ليقاتل عليها، ويدافع عن الدخول من بين البرجين، ورمّ شعث سور المدينة، وسدّت ثلمة، وأتقنت السلسلة التي بين البرجين، فبلغت النفقة على ذلك ألف ألف دينار، واعتبر السور، فكان قياسه: أربعة آلاف وستمائة وثلاثين ذراعا.
وفي سنة ثمان وثمانين وخمسمائة أمر السلطان، بقطع أشجار بساتين دمياط، وحفر خندقها، وعمل جسر عند سلسلة البرج.
وفي سنة خمس عشرة وستمائة، كانت واقعة دمياط العظمى، وكان سبب هذه الواقعة أنّ الفرنج في سنة أربع عشرة وستمائة، تتابعت إمدادهم من رومية الكبرى «١» : مقرّ البابا، ومن غيرها من بلاد الفرنج، وساروا إلى مدينة عكا، فاجتمع بها عدّة من ملوك الفرنج، وتعاقدوا على قصد القدس، وأخذه من أيدي المسلمين، فصاروا بعكا في جمع عظيم.