الفعلة والأعوان، فنظروا، فإذا الذي أحياه يوسف من الفيوم لا يعلمون له بمصر كلها مثلا ولا نظيرا، فقالوا: ما كان يوسف قط أفضل عقلا ولا رأيا ولا تدبيرا منه اليوم، فردّوا إليه الملك، فأقام ستين سنة أخرى تمام مائة سنة، حتى مات، وهو ابن ثلاثين ومائة سنة.
قال: ثم بلغ يوسف قول وزراء الملك، وإنه إنما كان ذلك على المحنة منهم له، فقال للملك: عندي من الحكمة والتدبير غير ما رأيت، فقال له الملك: وما ذاك؟ قال: أنزل الفيوم من كل كورة من كور مصر أهل بيت، وآمر أهل كل بيت أن يبنوا لأنفسهم قرية، وكانت قرى الفيوم على عدد كور مصر، فإذا فرغوا من بناء قراهم، صيرت لكل قرية من الماء بقدر ما أصير لها من الأرض لا يكون في ذلك زيادة، ولا نقص، وأصير لكل قرية شربا في زمان لا ينالهم الماء إلّا فيه، وأصير مطأطئا للمرتفع، ومرتفعا للمطأطىء بأوقات من الساعات في الليل والنهار، وأصير لها قبضات، فلا يقصر بأحد دون حقه، ولا يزداد فوق قدره، فقال له فرعون: هذا من ملكوت السماء؟ قال: نعم، فبدأ يوسف، فأمر ببنيان القرى وحدّد لها حدودا، وكانت أوّل قرية عمرت بالفيوم قرية يقال لها سانة، وهي القرية التي كانت تنزلها بنت فرعون، ثم أمر بحفر الخليج، وبنيان القناطر، فلما فرغوا من ذلك استقبل وزن الأرض، ووزن الماء، ومن يومئذ حدثت الهندسة، ولم يكن الناس يعرفونها قبل ذلك، وكان أوّل من قاس النيل بمصر، يوسف، ووضع مقياسا بمنف.
قال جامعه: وفي التوراة: أن فرعون ألزم بني إسرائيل البناء، وضرب اللبن، فبنوا له عدّة مدن محصنة منها فيثوم وعرمسيس. قال الشارح: هي الفيوم، وحوف رمسيس، وفي زمان الريان بن الوليد، دخل يعقوب عليه السلام، وولده مصر، وهم ثلاثة وسبعون نفسا ما بين رجل وامرأة، فأنزلهم يوسف ما بين عين شمس إلى الفرما، وهي أرض ريفية بريّة، وكان يعقوب لما دنا من مصر أرسل، يهودا إلى يوسف، فخرج إليه يوسف، فلقيه فالتزمه وبكى.
فلما دخل يعقوب على فرعون كلمه، وكان يعقوب شيخا كبيرا حليما حسن الوجه واللحية جهير الصوت، فقال له فرعون: أيها الشيخ كم أتى عليك؟ قال: عشرون ومائة، وكان بهمن ساحر فرعون قد وصف صفة يعقوب ويوسف وموسى صلوات الله عليهم في كتبه، وأخبر أن خراب مصر، وهلاك أهلها يكون على أيديهم، ووضع البربايات وصفات من تخرب مصر على يديه. فلما رأى يعقوب، قام إلى مجلسه، فكان أول ما سأله عنه أن قال: من تعبد أيها الشيخ؟ قال له يعقوب: أعبد الله إله كل شيء، فقال: فكيف تعبد من لا ترى؟ قال يعقوب: إنه أعظم وأجلّ من أن يراه أحد، قال: فنحن نرى آلهتنا؟ قال يعقوب:
إن آلهتكم من عمل أيدي بني آدم من يموت ويبلى، وإنّ إلهي لأعظم وأرفع، وهو أقرب إلينا من حبل الوريد، فنظر بهمن إلى فرعون فقال: هذا الذي يكون هلاك بلادنا على يديه؟