إيش هذا؟ فقلت: بقية ذلك القمح، فقال: أعفني منه وتركه، فتأمّل ما اشتمل عليه هذا الخبر من سعة حال كاتب من كتاب مصر، كيف كان له في قرية واحدة هذا القدر من صنف القمح، وكيف صار مما يفضل عنه، حتى يجعله ضيافة، وكيف لم يعبأ بأربعمائة دينار، حتى وهبها لدقاق قمح، وما ذاك إلا من كثرة المعاش، وقس عليه باقي الأحوال.
وقال عن أبي بكر محمد بن عليّ المادرانيّ: أنه حج اثنتين وعشرين حجة متوالية، أنفق في كل حجة مائة ألف دينار، وخمسين ألف دينار، وأنه كان يخرج معه بتسعين ناقعة لقبته التي يركبها، وأربعمائة لجهازه وميرته، ومعه المحامل فيها أحواض البقل، وأحواض الرياحين، وكلاب الصيد، وينفق على الأشراف، وأولاد الصحابة، ولهم عنده ديوان بأسمائهم، وأنه أنفق في خمس حجات أخر ألفي ألف دينار، ومائتي ألف دينار، وكانت جاريته تواصل معه الحج، ومعها لنفسها ثلاثون ناقة لقبتها، ومائة وخمسون عربيا لجهازها، وأحصى ما يعطيه كل شهر لحاشيته، وأهل الستر، وذوي الأقدار جراية من الدقيق الحواري، فكان بضعا وثمانين ألف رطل، وكان سنة القرمطيّ بمكة، فمن جملة ما ذهب له به مائتا قميص ديبقي ثمن كل ثوب منها خمسون دينارا، وقال مرّة: وهو في عطلته أخذ مني محمد بن طفج الإخشيد عينا وعرضا يبلغ نيفا وثمانين ويبة دنانير، فاستعظم من حضر ذلك، فقال ابنه الذي أخذ أكثر: وأنا أوقفه عليه، ثم قال لأبيه: يا مولاي أليس نكتب ثلاث مرّات؟ قال: قريب منها، قال: وعرض وعين؟ قال: كذلك، فأمر بعض الحساب بضبط ذلك، فجاء ما ينيف عن ثلاثين أردبا من ذهب؟! فانظر ما تضمنته أخبار المادرانيّ، وقس عليها بقية أحوال مصر، فما كان سوى كاتب الخراج، وهذه أمواله كما قد رأيت.
وقال الشريف الجوانيّ: إن أبا عبد الله محمد بن مفسر قاضي مصر سمع بأن المادرانيّ عمل في أيامه الكعك المحشوّ بالسكر، والقرص الصغار المسمى افطن له، فأمرهم بعمل الفستق الملبس بالسكر الأبيض الفانيد المطيب بالمسك، وعمل منه في أوّل الحال أشياء عوض لبه: لب ذهب في صحن واحد، فمضى عليه جملة، وخطف قدّامه تخاطفه الحاضرون، ولم يعد لعمله بل الفستق الملبس، وكان قد سمع في سيرة المادرانيين أنه عمل له هذا الإفطن له، وفي كل واحدة خمسة دنانير، ووقف أستاذ على السماط، فقال لأحد الجلساء: افطن له، وكان عمل على السماط عدّة صحون من ذلك الجنس، لكن ما فيه الدنانير صحن واحد، فلما رمز الأستاذ لذلك الرجل بقوله: افطن له، وأشار إلى الصحن تناول ذلك الرجل منه، فأصاب الذهب، واعتمد عليه، فحصل له جملة، ورآه الناس وهو إذا أكل يخرج من فمه، ويجمع بيده، ويحط في حجره، فتنبهوا له، وتزاحموا عليه فقيل لذلك من يومئذ: افطن له.