مدّة خلافته ثمان سنين، وقيل: سبع سنين وعشرة أيّام، وقد اختلف في تاريخ ولادته، فقيل: ولد أوّل ليلة من جمادى الآخرة سنة ثلاث وثلثمائة بالمهدية، وقيل: بل ولد في سنة اثنتين، وقيل: سنة إحدى وثلثمائة، وكان خطيبا بليغا يرتجل الخطبة لوقته شجاعا عاقلا.
وقام من بعده ابنه: المعز لدين الله أبو تميم معدّ، وعمره نحو أربع وعشرين سنة، فإنه ولد للنصف من رمضان سنة سبع عشرة وثلثمائة، فانقاد إليه البربر، وأحسن إليهم فعظم أمره، واختص من مواليه: بجوهر، وكناه بأبي الحسين وأعلى قدره، وصيره في رتبة الوزارة، وعقد له على جيش كثيف فيهم: الأمير زيري بن مناد الصنهاجيّ، فدوّخ المغرب وافتتح مدنا، وقهر عدّة أكابر وأسرهم حتى أتى البحر المحيط، فأمر باصطياد سمكة منه، وسيّرها في قلة من ماء إلى المعز إشارة إلى أنه ملك حتى سكان البحر المحيط الذي لا عمارة بعده، ثم قدم غانما مظفرا، فعظم قدره عند المعز، ولما كان في بعض الأيام استدعى المعز في يوم شات عدّة من شيوخ كتامة، فدخلوا عليه في مجلس قد فرش باللبود، وحوله كساء، وعليه جبة، وحوله أبواب مفتحة تفضي إلى خزائن كتب، وبين يديه دواة وكتب.
فقال: يا إخواننا أصبحت اليوم في مثل هذا الشتاء والبرد، فقلت لأمّ الأمراء، وإنها الآن بحيث تسمع كلامي: أترى إخواننا يظنون أنا في مثل هذا اليوم نأكل ونشرب، ونتقلب في المثقل والديباج والحرير، والفنك والسمور والمسك والخمر، والقباء كما يفعل أرباب الدنيا، ثم رأيت أن أنفذ إليكم فأحضرتكم لتشاهدوا حالي إذا خلوت دونكم، واحتجبت عنكم، وإني لا أفضلكم في أحوالكم إلّا بما لا بدّ لي منه من دنياكم، وبما خصني الله به من إمامتكم، وإني مشغول بكتب ترد عليّ من المشرق والمغرب أجيب عنها بخطي، وإني لا أشتغل بشيء من ملاذ الدنيا إلا بما يصون أرواحكم، ويعمر بلادكم، ويذل أعداءكم، ويقمع أضدادكم، فافعلوا يا شيوخ في خواتكم مثل ما أفعله، ولا تظهروا التكبر والتجبر، فينزع الله النعمة عنكم، وينقلها إلى غيركم، وتحننوا عليّ من وراءكم ممن لا يصل إليّ، كتحنني عليكم ليتصل في الناس الجميل، ويكثر الخير، وينتشر العدل، وأقبلوا بعدها على نسائكم والزموا الواحدة التي تكون لكم، ولا تشرهوا إلى التكثر منهنّ والرغبة فيهنّ، فيتنغص عشيكم، وتعود المضرّة عليكم، وتنهكوا أبدانكم وعقولكم، واعلموا أنكم إذا لزمتم ما آمركم به رجوت أن يقرّب الله علينا أمر المشرق كما قرّب أمر المغرب بكم انهضوا رحمكم الله ونصركم، فخرجوا عنه، واستدعى يوما أبا جعفر حسين بن مهذب صاحب بيت المال، وهو في وسط القصر قد جلس على صندوق، وبين يديه ألوف صناديق مبدّدة، فقال له: هذه صناديق مال، وقد شذ عني ترتيبها فانظرها ورتبها قال: فأخذت أجمعها إلى أن صارت مرتبة، وبين يديه جماعة من خدّام بيت المال، والفرّاشين، فأنفذت إليه أعلمه فأمر برفعها في الخزائن على ترتيبها، وأن يغلق عليها، وتختم بخاتمه، وقال: قد خرجت عن خاتمنا وصارت إليك، فكانت جملتها أربعة وعشرين ألف ألف دينار، وذلك في سنة سبع وخمسين