الدعوة السابعة: لا يفصح بها الداعي ما لم يكثر أنسه بمن دعاه، ويتيقن أنه قد تأهل إلى الانتقال إلى رتبة أعلى مما هو فيه، فإذا علم ذلك منه قال: إنّ صاحب الدلالة، والناصب للشريعة، لا يستغني بنفسه، ولا بدّ له من صاحب معه يعبر عنه ليكون أحدهما الأصل والآخر عنه كان وصدر، وهذا إنما هو إشارة العام السفليّ، لما يحويه العالم العلويّ، فإنّ مدبر العالم في أصل الترتيب، وقوام النظام صدر عنه أوّل موجود بغير واسطة، ولا سبب نشأ عنه، وإليه الإشارة بقوله تعالى: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
[يس/ ٨٢] إشارة إلى الأوّل في الرتبة، والآخر هو القدر الذي قال فيه: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ
[القمر/ ٤٩] وهذا معنى ما نسمعه من أنّ الله: أوّل ما خلق القلم، فقال للقلم: اكتب، فكتب في اللوح ما هو كائن، وأشياء من هذا النوع موجودة في كتبهم، وأصلها مأخوذ من كلام الفلاسفة القائلين: الواحد لا يصدر عنه إلّا واحد، وقد أخذ هذا المعنى المتصوّفة، وبسطوه بعبارات أخر في كتبهم، فإن كنت ممن ارتاض وعرف مقالات الناس تبين ذلك ما ذكرت، ولا يحتمل هذا الكتاب بسط القول في هذا المعنى، وإذا تقرّر ما ذكر في هذه الدعوة عند المدعوّ، نقله الداعي إلى الدعوة الثامنة.
الدعوة الثامنة: متوقفة على اعتقاد سائر ما تقدّم، فإذا استقرّ ذلك عند المدعوّ، دينا له، قال له الداعي: اعلم أن أحد المذكورين اللذين هما مدبر الوجود والصادر عنه، إنما تقدّم السابق على اللاحق، تقدّم العلة على المعلول، فكانت الأعيان كلها ناشئة، وكائنة عن الصادر الثاني، بترتيب معروف في بعضهم، ومع ذلك فالسابق عندهم: لا اسم له، ولا صفة، ولا يعبر عنه، ولا يقيد فلا يقال هو موجود، ولا معدوم، ولا عالم، ولا جاهل، ولا قادر، ولا عاجز، وكذلك سائر الصفات، فإنّ الإثبات عندهم يقتضي شركة بينه وبين المحدثات، والتقي يقتضي التعطيل، وقالوا: ليس بقديم، ولا محدث، بل القديم أمره وكلمته والمحدث خلقه وفطرته، كما هو مبسوط في كتبهم، فإذا استقرّ ذلك عند المدعوّ قرر عنده الداعي، أن التالي يدأب في أعماله حتى يلحق بمنزلة السابق، وأنّ الصامت في الأرض يدأب في أعماله حتى يصير بمنزلة الناطق سواء، وأنّ الداعي يدأب في أعماله حتى يبلغ منزلة السوس، وحالة سواء.
وهكذا تجري أمور العالم في أكواره وأدواره، ولهذا القول بسط كثير، فإذا اعتقده المدعوّ قرّر عنده الداعي أنّ معجزة النبيّ الصادق الناطق ليست غير أشياء ينتظم بها سياسة الجمهور، وتشمل الكافة مصلحتها بترتيب من الحكمة تحوي معاني فلسفية تنبىء عن حقيقة أنية السماء والأرض، وما يشتمل العالم عليه بأسره من الجواهر والأعراض، فتارة برموز يعقلها العالمون، وتارة بإفصاح يعرفه كل أحد، فينتظم بذلك للنبيّ شريعة يتبعها الناس، ويقرّر عنده أيضا أنّ القيامة، والقرآن، والثواب، والعقاب، معناها: سوى ما يفهمه