محسوسا من غير توسط. فمن أجل ذلك ليس أبدان المصريين في مرض دائم ولكنها كثيرة الاستعداد نحو الأمراض. قال: أما أمراض مصر البلدية فقد ذكرنا من أمرها ما فيه كفاية وظهر أن أكثرها الأمراض الفضيلة التي يشوبها صفراء وخام على أن باقي الأمراض تحدث عندهم بسرعة، وقرب وخاصة في آخر الخريف وأوّل الشتاء.
وأما الأمراض الوافدة: ومعنى المرض الوافد: هو ما يعمّ خلقا كثيرا في بلد واحد وزمان واحد ومنه نوع يقال له: الموتان؛ وهو الذي يكثر معه الموت، وحدوث الأمراض الوافدة تكون عن أسباب كثيرة يجتمع في أجناس أربعة وهي تغير كيفية الهواء، وتغير كيفية الماء، وتغير كيفية الأغذية، وتغير كيفية الأحداث النفسانية. فالهواء تغير كيفيته على ضربين: أحدهما تغيره الذي جرت به العادة، وهذا لا يحث مرضا وافدا، وليس تغيرا ممرضا. والثاني: التغير الخارج عن مجرى العادة وهذا هو الذي يحدث المرض الوافد.
وكذلك الحال في الأجناس الباقية وخروج تغير الهواء عن عادته يكون: إما بأن يسخن أكثر، أو يبرد أو يرطب، أو يجفف أو يخالطه حال عفنة، والحالة العفنة إما أن تكون قريبة أو بعيدة. فإن أبقراط وجالينوس يقولان: إنه ليس يمنع مانع من أن يحدث ببلد اليونانيين مرض وافد عن عفونة اجتمعت في بلاد الحبشة، وتراقت إلى الجوّ وانحدرت على اليونانيين، فأحدثت فيهم المرض الوافد.
وقد يتغير أيضا مزاج الهواء عن العادة بأن يصل وفد كثير قد أنهك أبدانهم طول السفر، وساءت أخلاطهم فيخالط الهواء منها شيء كثير، ويقع الأعداء في الناس، ويظهر المرض الوافد. والماء ضا قد يحدث المرض الوافد إما بأن يفرط مقداره في الزيادة أو النقصان، أو يخالطه حال عفنة ويضطرّ الناس إلى شربه، ويعفن به أيضا الهواء المحيط بأبدانهم، وهذه الحال تخالطه إما قريبا أو بعيدا بمنزلة ما يمرّ في جريانه بموضع خرب قد اجتمع فيه من جيف الموتى شيء كثير، أو بمياه تقاطع عفنة فيحذرها معه ويخالط جسمه، والأغذية تحدث المرض الوافد. إما إذا لحقها اليرقان، وارتفعت أسعارها، واضطرّ الناس إلى أكلها، وإما إذا أكثر الناس منها في وقت واحد، كالذي يكون في الأعياد فيكثر فيهم التخم، ويمرضون مرضا متشابها. وإما من قبيل فساد مرعى الحيوان الذي يؤكل، أو فساد الماء الذي يشرب، والأحداث النفسانية تحدث المرض الوافد متى حدث في الناس خوف عام من بعض الملوك فيطول سفرهم وتفكرهم في الخلاص منه، وفي وقوع البلاء، فيسوء هضمهم وتتغير حرارتهم الغريزية. وربما اضطروا إلى حركة عنيفة في هذه الحال، أو يتوقعوا قحط بعض السنين فيكثرون الحركة والاجتهاد في ادّخار الأشياء، ويشتد غمهم بما سيحدث. فجميع هذه الأشياء تحدث في أبدان الناس المرض الوافد متى كان المتعرض لها خلق كثير في بلد واحد ووقت واحد. وظاهر أنه إذا كثر في وقت واحد المرضى بمدينة واحدة؛ ارتفع من أبدانهم بخار كثير فيتغير مزاج الهواء فإذا صادف بدنا مستعدّا أمرضه، وإن