فالأمراض الوافدة بمصر تحدث إما عن فساد لم تجر به العادة يعرض للهواء سواء كان مادّة فساده من أرض مصر، أو من البلاد التي تجاورها كالسودان والحجاز والشام وبرقة، أو يعرض للنيل بأن تفرط زيادته، فتكثر زيادة الرطوبة والعفن، أو تقل زيادته جدّا فيجف الهواء عن مقدار العادة، ويضطرّ الناس إلى شرب مياه رديئة أو يخالطه عفونة تحدث عن جرب يكون بأرض مصر أو ببلاد السودان أو غيرها يموت فيها خلق كثير، ويرتفع بخار جيفهم في الهواء فيعفنه، ويتصل عفنه إليهم، أو يسيل الماء، ويحمل معه العفن، أو يغلو السعر أو يلحق الغلات آفة، أو يدخل على الكباش ونحوها مضرة أو يحلق الناس خوف عام أو قنوط. وكل واحد من هذه الأسباب يحدث في أرض مصر مرضا وافدا يكون قوّته بمقدار قوّة السبب المحدث له وإن كان أكثر من سبب واحد كان ذلك المرض أشدّ وأقوى وأسرع في القتل.
قال: فمزاج أرض مصر حار رطب بالرطوبة الفضلية، وما قرب من الجنوب بأرض مصر كان أسخن، وأقل عفنا في ماء النيل مما كان منها في الشمال، ولا سيما من كان في شمال الفسطاط. مثل أهل البشمور فإن طباعهم أغلظ، والبله عليهم أغلب، وذلك أنهم يستعملون أغذية غليظة جدّا ويشربون من الماء الرديء.
وأما إسكندرية وتنيس وأمثال هذه، فقربها من البحر، وسكون الحرارة، والبرد عنهم، وظهور الصبا فيهم مما يصلح أمرهم، ويرق طباعهم، ويرفع هممهم ولا يعرض لهم ما يعرض لأهل البشمور من غلظ الطبع، والجمادية وإحاطة البحر بمدينة تنيس، توجب غلبة الرطوبة عليها وما يسر أخلاق أهلها قال: إنه لما كانت أرض مصر، وجميع ما فيها سخيفة الأجسام سريعا إليها التغير، والعفن وجب على الطبيب أن يختار من الأغذية، والأدوية ما كان قريب العهد حديثا. لأنّ قوّته بعد باقية عليه، لم تتغير كل التغير، وأن يجعل علاجه ملائما لما عليه الأبدان بأرض مصر، ويجتهد في أن يجعل ذلك إلى الجهة المضادة أميل قليلا، ويتجنب الأدوية القوية الإسهال، وكل ما له قوّة مفرطة. وإن نكاية هذه الأبدان سريعة. سيما وأبدان المصريين سريعة الوقوع في النكايات، ويختار ما يكون من الأدوية المسهلة، وغيرها ألين قوّة حتى لا يكون على طبيعة المصريين منها كلفة، ولا يلحق أبدانهم مضرّة، ولا يقدم على الأدوية الموجودة في كتب أطباء اليونانيين والفرس. فإن أكثرها عملت لأبدان قويّة البنية عظيمة الأخلاط، وهذه الأشياء قلما توجد بمصر.
فلذلك يجب، على الطبيب أن يتوقف في إعطاء هذه الأدوية للمرضى، ويختار ألينها وينقص عن مقدار شرباتها ويبدل كثيرا منها بما يقوم مقامه، ويكون ألين منه، فيتخذ السكنجبين السكريّ في مقام العسلي، والجلاب بدلا من ماء العسل. واعلم أن هواء مصر