وأعظمها قدرا، ومن أحسنها ضبطا، وأحفلها مادّة، وأعمها فائدة، إلا أنّه مع كل هذه المحاسن لا يوازن بمعجم البكرىّ فى ضبطه وتحرّيه؛ فإن البكرىّ لغوىّ دقيق الحسّ، كامل الأداة، من النحو، والصرف، واللغة؛ ريّان من علوم الرواية: الأشعار، والأخبار، والأنساب؛ إلى علوم الدين: الحديث، والتفسير، والفقه، وغيرها من أطراف الثقافة الإسلامية. كما أنه لا يفوقه استيعابا وإحاطة؛ وهو أمر يبدو غريبا، ولكنه الحقيقة سافرة: فإن معجم البكرىّ ليس من المعاجم العامّة للبلدان، وإنما هو معجم لغوىّ.
خاصّ بتحقيق أسماء المواضع التى وردت فى الشعر العربىّ، وفى الأحاديث، وفى كتب السّير، والتواريخ القديمة، وأيام العرب، وما إلى ذلك؛ فهو فى هذا النوع الخاصّ، أكثر جمعا لأسماء المواضع العربيّة، من معجم البلدان لياقوت. وكم عثرت عند البكرىّ، بل عند الهمدانىّ، على أسماء بلدان وأماكن، لم أجدها عند ياقوت، لأنّ معجم ياقوت معجم عام فى الجغرافيا: يصف البلدان المشهورة، فى أرجاء المعمورة.
أما غير الهمدانىّ وياقوت من أصحاب كتب الجغرافيا، فليس يعنينى أن أقف عندهم، موازنا بين البكرىّ وبينهم، فقد ظهر فضله على جميعهم، بتفوّقه على زعمائهم؛ وكفى بالهمدانىّ وياقوت عالمين، ومؤلفين رئيسين.
أخصّ مزايا معجم البكرىّ كما قلت الضّبط: فإنّه لهذا الغرض ألّف، وقد أبان هو عن ذلك فى مقدمته، إذ رأى كثيرا من أسماء البلدان التى ترد فى الأحاديث والأشعار والسير والتواريخ، قد دبّ إليها التصحيف والتحريف، وضرب لذلك أمثلة كثيرة؛ وكان هذا التحريف داء قديما، لم يسلم من آفته حتى أئمة الرّواة وكبار العلماء، كالأصمعىّ من علماء اللغة، ويزيد بن هارون من المحدّثين، فراعه ذلك، وأوحى إليه بتأليف كتابه.
والبكرىّ يضبط الكلمات بالعبارة لا بالحركات، وهذه إحدى مزاياه، ولولا ذلك لاختل المعجم، وضاعت قيمته، ولم يسلم من شوائب التحريف، التى ذهبت بكثير من محاسن غيره.
ويعوّل المؤلف فى الضبط على الشعر العربى أولا، فيأتى بالشعر الذي ورد فيه اسم المكان، ويسنده إلى الراوى الذي نقله من العلماء، ويوازن بين الروايات، ويرجّح رواية الثقات، ويعتمد فى ذلك على النسخ الفذّة، التى كتبها العلماء نفسهم بأيديهم، أو التى