[تشديد الله على بني إسرائيل في صفات البقرة التي أمروا بذبحها]
{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ}[البقرة:٦٨]، ولم يقولوا: ادع لنا ربنا.
{ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ}[البقرة:٦٨]، أي: صفات البقرة من اللون وغيره، يقول العلماء: إذا خرج الأمر أفاد الوجوب والفورية.
قال عمر بن عبد العزيز لأحد مواليه: أعط السائل ماعزاً، فأرسل المولى يسأله: ضأناً أم ماعزاً؟ قال: ماعزاً، قال: أنثى أم ذكراً؟ قال: ذكراً، قال: سوداء أم بيضاء؟ فقال: أيها الرجل! يا متنطع! حينما آمرك أن تخرج فأخرج طالما لم أحدد لك الصفة على النحو الذي قلت، فهذا تنطع كتنطع بني إسرائيل في أحكام الله، ومنا من يفعل ذلك في أحكام الله سبحانه، فيتنطع ويتلكأ ويتباطأ ويجادل، وهذا ما ينبغي أن يكون لمسلم أبداً، {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ}[البقرة:٦٨]، قوله:(لا فَارِضٌ): يعني: غير مسنة، وقوله:(وَلا بِكْرٌ): يعني: ولا صغيرة لم تلد، وإنما خير الأمور الوسط، وهذا مثل عربي صحيح، وكل الأمثلة الصحيحة مستقاة من القرآن، فالمثل:(في الحركة بركة) من قوله تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً}[النساء:١٠٠]، و (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين) من قوله تعالى في سورة يوسف: {هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ}[يوسف:٦٤]، والمثل (الجزاء من جنس العمل) من قوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}[النساء:١٢٣] وكل الأمثلة الصحيحة في حياتنا تعود إلى القرآن.
ثم قال الله عز وجل:{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ}[البقرة:٦٩]، واسألوا أهل اللغة: فالأصفر فاقع، والأسود حالك، والأخضر ناضر، والأحمر قانن، وهكذا بقية الألوان، لذلك يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إن نعل الرجل الأصفر يجذب همه، وكان يأبى أن يلبس نعلاً أسود؛ لأنه يدخل الهم إلى القلب، وهو قول الزبير أيضاً، {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ}[البقرة:٦٩]، والسرور من الإسرار، وسرور القلب يختلف عن الحبور ويختلف عن الفرح، {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ}[البقرة:٦٩]، إذا نظر إليها سرته وأدخلت السرور إلى قلبه، {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ}[البقرة:٧٠].
قال النبي صلى الله عليه وسلم:(لو لم يقولوا: إن شاء الله لما هداهم الله إليها)، ولذلك يقول الفقهاء: فلتكن هذه الكلمة -أي: إن شاء الله- على لسانك في كل أمر مستقبل، وقد قال الله لنبيه عليه الصلاة والسلام:{وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}[الكهف:٢٣ - ٢٤]، وقال موسى للخضر:{سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا}[الكهف:٦٩]، وقال الفقهاء: إن حلف الرجل على فعل شيء ثم قال: إن شاء الله ولم يفعل فلا كفارة عليه، وقسموا المشيئة إلى قسمين، إن شاء الله تعليقاً، وإن شاء الله تحقيقاً، ففي قوله سبحانه وتعالى:{لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ}[الفتح:٢٧]، تحقيقاً لا تعليقاً، فإن شاء الله تعليقاً للحكم، وإن شاء الله لتحقيق الحكم.
وهنا قال الله على لسانهم:{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ}[البقرة:٧٠]، فجاءت الصفات الثلاث للبقرة، من اللون وصفتها وطبيعتها، وهذا حصر لكل الصفات، وهذا من بلاغة القرآن الكريم، والإعجاز البلاغي واللغوي في القرآن له موضوع طويل، ولذلك قال:{إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ}[البقرة:٧١]، يعني: غير مذللة في إثارة الأرض، فلا تحرث الأرض، ولا تسقي في الحرث الزرع، {مُسَلَّمَةٌ}[البقرة:٧١]، أي: سليمة من العيوب {لا شِيَةَ فِيهَا}[البقرة:٧١]، أي: لا لون فيها إلا الأصفر، ولو أن فيها شعرة واحدة بيضاء لا تجزئ، ثم قال الله على لسانهم:{قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ}[البقرة:٧١]، أي: يا موسى الآن فقط جئت بالحق! وهذا يدل على أن هؤلاء أناس أصحاب جدل ونفاق.