وبينما موسى عليه السلام على جبل الطور في الميقات يكلم الله ويكلمه الله -والكلام معلوم والكيف مجهول- وكان بنو إسرائيل عند خروجهم من مصر قد أخذوا الذهب من المصريين القدامى، وكان أمانة عندهم، فمن متى هؤلاء أمناء؟! فهم يستحلون الأموال والنهب والسرقة، إذ فكر السامري بفكرة شيطانية، ففكر أن يجمع منهم هذا الذهب، وأن يجعله في حفرة حتى يتخلصوا من هذه الأوزار، ثم يوقد عليه ناراً، ثم يأتي بتراب من أثر جبريل عليه السلام كما يقول جمهور المفسرين، فيلقيه على الذهب المصهور في النار، ويصنع لهم بذلك عجلاً، ولذلك ربنا يقول:{وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ}[طه:٨٧]، أي: حُمّلنا أوزاراً من ذهب المصريين القدامى، فأردنا أن نتخلص منه، وكان هذا العجل يدخل الهواء من فمه ويخرج من دبره فيحدث صوتاً مرتفعاً أشبه بالخوار.
ثم قال لهم السامري: هذا هو إلهكم، وهم يهتفون ويسجدون ويركعون عنده، فهؤلاء هم اليهود، وهذا هو تاريخهم، وانقسم بنو إسرائيل إلى فريقين: فريق لا يعبد إلا الله وحده، فقاموا بالنصح والإرشاد للفريق الآخر، وفريق قالوا: لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى، ليبين لنا حقيقة هذا العجل.
ونبي الله هارون عليه السلام ضعيف بين هؤلاء القوم، ولذلك لما جاء موسى وأخذ برأسه وبلحيته وقال: لماذا لم تتبعن إذ رأيتهم ضلوا؟ لِم لم تُنكر عليهم ما فعلوا؟ فرد عليه هارون قائلاً:{ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ}[الأعراف:١٥٠]، أي: يا موسى أنا لم أسلم لهم بذلك، بل قد أنكرت عليهم، وكادوا يقتلونني ويفتكون بي استضعافاً، ولكن الله عز وجل سلّم.
ولما علم موسى صدق أخيه قال:{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي}[الأعراف:١٥١]، وفي سورة طه لما عاد موسى من ميقات ربه، قال له ربه:{فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ}[طه:٨٥]، والسامري بماذا أضلهم؟ {أَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ}[طه:٨٨]، أي: صوت، فلما رجع موسى ورأى حال قومه من عبادتهم للعجل ألقى الألواح وأخذ بلحية أخيه، فقال أخوه:{يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي}[طه:٩٤]، فهارون كان له لحية، وفي هذا دليل على أن اللحية من صفات الأنبياء والمتقين، أما نحن اليوم فنجد عندنا من يقول: إن حلق اللحية لمصلحة الدعوة يجوز، فاخسأ وادخل الجحر، قل: أنا ضعيف، أنا مستكين، لكن أن تقول: أحلق اللحية لأجل مصلحة الدعوة! فمصلحة الدعوة بريئة منك، وما رأينا في سلفنا من الصحابة والتابعين وتابعيهم رجلاً حليقاً أبداً، ففي مكة -في مرحلة الاستضعاف وقريش تؤذيهم- ما اجتمع النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه وقال: احلقوا اللحى لأجل مصلحة الدعوة! إن هؤلاء القوم يتخبطون، وعندهم الغاية تبرر الوسيلة، فيركبونها وإن لم تكن مشروعة، وقد ركبوها مراراً وتكراراً.