[نماذج من صبر الأنبياء والصالحين عند النوازل]
روى البخاري في صحيحه: (دخلت فاطمة على أبيها وقد اشتد به مرض الموت) يصبر في حال المرض.
يقول ربنا عن أيوب: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:٤٤] لم يتضجر أيوب عليه السلام أبداً، فإن الله يقول: ((إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً)) على بلاء الله في جسده.
قال: (فوجدت فاطمة النبي صلى الله عليه وسلم وقد ثقل) أي: اشتد به الوجع؛ لأنه يوعك كما يوعك رجلان منا؛ لعظم أجره ولعلو منزلته صلى الله عليه وسلم، فقالت فاطمة: (وا كرب أبتاه! فنظر إليها قائلاً: لا كرب على أبيك بعد اليوم يا فاطمة!)، لا كرب عليه؛ لأنه سينتقل من الحياة الدنيا إلى الآخرة، إلى الفردوس الأعلى، إلى رضوان الله، فإذا بها تنادي بصوتها وتقول: (يا أبتاه! أجاب رباً دعاه، يا أبتاه! إلى جبريل ننعاه، يا أبتاه! إلى جنة الفردوس مثواه، فلما أدخلوا النبي محمد صلى الله عليه وسلم في التراب وأهالوه عليه، بكت وهي تقول لـ أنس: يا أنس! أطابت أنفسكم أن تحثوا التراب على رسول الله؟ قال: والله ما طابت، ولكنه أمر الله عز وجل).
وانظر إلى حياة نبي الله يعقوب، إذ إن الصبر متعدد الأنواع، قال تعالى على لسان يعقوب: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:٨٦] حينما قال لأولاده: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً} [يوسف:١٨] والمقابل: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف:١٨] صبر جميل لا تضجر معه ولا ملل، ولا شكوى إلا إلى الله عز وجل، أخذوا منه يوسف أحب أبنائه إليه، وحب الأبناء فطري، والعبد لا يملك معه شيئاً، فهو قد أحب يوسف ولا اختيار له في هذا الحب، أخذوا يوسف من يعقوب عليه السلام بعد العهود والمواثيق، ووضعوه في الجب وحيداً، طفل لا اختيار له، ولم تأخذهم به رحمة، وهو الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم كما قال النبي عليه الصلاة والسلام.
قال تعالى: {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ} [يوسف:١٦]، جاءوا عشاءً؛ لأن الكذاب كذبه في العادة يبدو على وجهه، ويستحيل أن يداري الكذب، لذلك يقول عبد الله بن سلام: (لما نزل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة نظرت إلى وجهه فعرفت أنه ليس بوجه كذاب).
قال تعالى: {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ} [يوسف:١٦]، والدموع متعددة، فهناك دمعة النفاق، وهناك دمعة الحزن، وهناك دمعة الخوف، وهناك دمعة بكاء المجاورة، وكل دمعة لها مذاق وطعم خاص وحرارة مختلفة، قال تعالى: {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:١٦ - ١٧] فقال لهم أبوهم يعقوب: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف:١٨] وهكذا رأى يعقوب بنور البصيرة.
ويمر الزمان، ويدخلون على يوسف بعدما فعلوا ما فعلوا {فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} [يوسف:٥٨] فقد رآهم يوسف بعين البصيرة، فالمؤمن يرى بنور البصيرة، والعاصي قد ران على قلبه الذنوب والمعاصي.
ذكر البخاري حادثة الإفك، وهذا أيضاً يحتاج إلى صبر في العرض وفي الجسد وفي الرزق وفي الاضطهاد وفي الإيذاء القولي وفي الإيذاء المعنوي، فربما يتهمك الناس ظلماً فاصبر، وربما تذهب ضحية قضية وأنت لست مذنباً فاصبر، فإن مع العسر يسراً وبعد الضيق فرجاً، ومحك الإيمان هو الصبر على المكروه.
لما حدث في المدينة ما حدث وتجلجلت بحادثة الإفك، وصل الأمر إلى أذن عائشة فعلمت به، وبعد مدة زمنية ذهبت إلى بيت أبيها، تقول أمنا عائشة: (فظللت أبكي حتى انقطعت الدموع من عيني وظننت أن البكاء سيفلق كبدي، فجاءها النبي صلى الله عليه وسلم يقول لها: يا عائشة! إن كنت قد اقترفت من ذلك شيئاً فتوبي إلى الله، وإن كنت بريئة فسيبرئك الله، قالت: يا أبي! أجب رسول الله، قال: ما أقول يا ابنتي؟ قالت: يا أمي أجيبي رسول الله، ثم قالت: إن قلت لكم: إني صادقة كذبتموني، وإن قلت: إني اقترفت من ذلك شيئاً اتهمت نفسي بشيء لم أرتكبه، إنما شأني وشأنكم كشأن يعقوب مع أولاده، لا أقول لكم إلا كما قال لهم: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:١٨]) عند ذلك جاء الوحي ببراءة عائشة رضي الله عنها من فوق سبع سماوات.
ومن الصبر أيضاً: الصبر في طلب العلم، قال الخضر لموسى عليه السلام: {إِنَّكَ لَنْ ت