وعلى كل فقد أخذ تلاميذ سعيد بن جبير يسألونه حتى أكثروا عليه السؤال، وفي هذا إشارة إلى حرصهم على طلب العلم أيضاً، فلما أكثروا عليه السؤال سألوه عن قصة مقام إبراهيم، فقال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: لما كان بين إبراهيم وزوجه ما كان، أي: لما كان بين إبراهيم وزوجته سارة؛ لأن إبراهيم عليه السلام تزوج من سارة وظل أكثر من ثمانين عاماً لم ينجب منها، ولما نزلت سارة إلى مصر، ودخلت على ملك ظالم فراودها عن نفسها، والقصة معروفة في حديث آخر، والمهم أنها دعت عليه فأصيب بشلل نصفي مرات عديدة، فقال: أخرجوها فلقد أدخلتم علي شيطانة، وأعطاها مملوكة أو أمة اسمها: هاجر، فلما أخذتها أعطتها لإبراهيم عليه السلام، فتزوج إبراهيم من هاجر، ولما تزوج من هاجر حملت منه، وغيرة النساء معلومة، فالأولى لم تحمل والثانية حملت.
لذا لابد أن القديمة ستغار، ولا يمكن أن نغض الطرف عن الغيرة في الصالحات، ففي الحديث عند البخاري:(أن النبي صلى الله عليه وسلم بات عند عائشة في ليلتها، فأرسلت إليه إحدى زوجاته طعاماً في إناء، فقالت عائشة: هو في ليلتي وترسل إليه طعاماً! فأخذت الإناء وألقته إلى الأرض فانكسر إلى نصفين)! غيرة منها رضي الله عنها، (فأخذ النبي يقول: غارت أمكم، ويجمع الطعام من الأرض) دون تعنيف، (ثم دخل إلى حجرة عائشة فأحضر إناء بدل الإناء المكسور، وأرسله عليه الصلاة والسلام إلى زوجته)، وقد غارت عائشة كثيراً من خديجة رضي الله عنها، وما غارت من أحد من زوجاته بقدر ما غارت من خديجة رضي الله عنها؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان وفياً لـ خديجة رضي الله عنها، وهذا هو خلق النبي عليه الصلاة والسلام، فكان كلما جاءته امرأة يعرفها أيام خديجة يقوم لها ويقول:(كانت تأتينا أيام خديجة)، فكان يذكرها عليه الصلاة والسلام في المدينة بعد مدة طويلة، وعائشة تستمع لذلك فتأخذها الغيرة فتقول:(يا رسول الله لا تزال تذكر عجوزاً من عجائز قريش، لقد أبدلك الله خيراً منها، قال: والله ما أبدلني الله خيراً منها، لقد صدقتني حين كذبني الناس، وآمنت بي حين كفر الناس، وأعطتني حين منعني الناس، ورزقني الله منها الولد)، رضي الله عنها وجاء جبريل يقول:(يا رسول الله! إن ربك يأمرك أن تقرئ خديجة السلام منه، وأخبرها أن لها بيتاً في الجنة من قصب لا نصب فيه ولا وصب).
والغيرة قد تكون أحياناً محمودة، وقد تكون أحياناً مذمومة، وطالما أن الشرع يقيدها فلا بأس؛ لأنها من طبائع النساء، فلما غارت سارة فرق بينهما إبراهيم عليه السلام، والرجل الحكيم هو الذي لا يجمع بين زوجتين في مكان واحد، وذلك حتى لا تدب الغيرة بينهن، فأخذ إبراهيم هاجر وانطلق بها إلى مكة بأمر ربه عز وجل بعد أن ولدت له إسماعيل عليه السلام، واتخذت هاجر لباساً أو معطفاً يجر على الأرض، وربطته على رأسها أو في وسطها، حتى تخفي أثرها على سارة فلا تعرف لها طريقاً.