[طريق الدعوة هو طريق البلاء]
الحمد لله رب العالمين، شرع لنا ديناً قويماً وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [فاطر:٣].
خلقنا من عدم، وأطعمنا من جوع، وكسانا من عري، وهدانا من ضلال، فـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:٤٣].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير.
مستو على عرشه، بائن من خلقه، لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، قلوب العباد بين أصبعين من أصابعه يقلبها كيف شاء وحسبما أراد.
فاللهم يا مثبت القلوب! ثبت قلوبنا على دينك.
وأشهد أن نبينا ورسولنا وشفيعنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فما ترك من خير يقربنا من الجنة إلا وأمرنا به، وما من شر يقربنا من النار إلا ونهانا عنه، فترك الأمة على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه في الأولين والآخرين والملأ الأعلى إلى يوم الدين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:١٠٢].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:١].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:٧٠ - ٧١].
ثم أما بعد: أيها الإخوة الكرام الأحباب! لا يزال الحديث مع إبراهيم خليل الرحمن جل وعلا، الذي جاء ربه بقلب سليم، والذي آتاه الله كمال الحجة، فأقام البراهين والأدلة على عباد الأصنام والكواكب والنجوم، وحطم الشرك في عصره، وترك ولده الرضيع امتثالاً لأمر ربه بواد غير ذي زرع عند بيت الله المحرم، وهو الذي وفى، وأول من أكرم الضيف، ولبس السراويل واختتن، وبذل ماله للضيفان، وجسده للنيران، وولده للقربان فاستحق أن يكسى عند الواحد الديَّان، وقد قال الله في حقه: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل:١٢٠].
ولقاؤنا اليوم مع (إبراهيم والبلاء).
لا بد أن نعلم ابتداءً أن طريق الدعوة إلى الله هو طريق البلاء، ورب العالمين تبارك وتعالى بين في كتابه أنه {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:٢].
وقال سبحانه: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الكهف:٧].
وقال جل شأنه: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ} [الإنسان:٢]، فكأن العلة من وجود الخلق في هذه الحياة البلاء، ومن ثم يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل)، ولن تجد داعية ولا عالماً من سلف الأمة لم يبتل، فلا بد من البلاء.
وحدث عن فتنة الإمام مالك ولا حرج، فلما بايع بعض من كان في المدينة الأمير مكرهاً جاء إلى مالك في درس علمه وقال له: يا مالك! بيعة المكره تقع؟ فقال مالك: لا تقع، فقال له: يا مالك! قل: تقع، قال: لا؛ فإن زلة العالِم زلة عالَم.
فهؤلاء الرجال ما باعوا دينهم بعرض من الدنيا قليل، فأبى مالك أن يقولها فأُمِر بجلده، فجلد رحمه الله حتى شلت يداه بجواره.
وامتحن الإمام أحمد في القول بخلق القرآن، وحاول بعض خلفاء الدولة العباسية قهره على أن يقول: إن القرآن مخلوق، فقال: من قال: إن القرآن مخلوق فهو زنديق؛ إذ المخلوق يحتاج إلى خالق، وكلمات الله صفة من صفاته، وصفات الله أزلية، وقد كان صلى الله عليه وسلم يقول: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق)، أي: أنه كان يستعيذ بغير المخلوق من المخلوق.
فلن تجد عالماً من علماء الأمة ولا أحداً من سلفنا الصالح إلا وقد ابتلي في الله عز وجل، وطريق الدعوة يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (حفت الجنة بالمكاره)، فيا من تريد الجنة! طريقها المكاره، وستؤذى في نفسك وفي ب