وقد كان الجدال بين نوح وبين قومه على النحو الآتي: الاعتراض الأول قالوا: يا نوح! إنك بشر والنبوة لا تكون في البشر، لو شاء الله أن يرسل نبياً لأرسل ملكاً.
هذا هو الاعتراض الأول، ولذلك -إخوتي الكرام- أركز هنا على أمر هام إلا وهو بشرية الأنبياء والرسل، الأنبياء جميعاً بشر، ويترتب على هذه البشرية أنهم يمرضون، كما قال الله عن إبراهيم:{وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}[الشعراء:٨٠]، وأنهم يبتلون، كما قال الله عن يوسف:{فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ}[يوسف:٤٢]، وأنهم يعملون، كما قال الله عن داود:{وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ}[الأنبياء:٨٠]، كل ذلك ثابت في حق الرسل، وأنهم يتزوجون، وأنهم يصابون، فلقد أصيب الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم يوم أحد بجرح في فمه فنزف الدم من فمه الطاهر عليه الصلاة والسلام، وشج رأسه وأخذ يمسح الدم من على وجهه ويقول:(كيف يفلح قوم شجوا وجه نبيهم)، ويوم أن ذهب إلى أهل الطائف يدعوهم إلى العبادة والتوحيد، رموه بالحجارة وهددوه، وهذا هو حال الدعاة إلى الله في كل الأزمنة والعصور، يقذفون بالحجارة، ولكنهم يعطون رطباً جنياً كحال النخلة كما قال علماؤنا.
هذا هو طريق الدعوة إلى الله، ليس مفروشاً بالورود، طريق الأنبياء والرسل، طريق البذل والعطاء، طريق التضحية بالنفس والمال والولد، طريق الأنبياء هو طريق الدعوة إلى الله عز وجل، خرج النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف والناس يرمونه بالحجارة، وزيد يتلقى كل حجر برأسه ليدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى وصلت الحجارة إلى قدم الحبيب محمد فأدمت قدميه، والحديث ضعفه بعض العلماء وصححه البعض، خرج من الطائف والدم يسيل من قدمه وهو يقول:(اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الرحمين أنت ربي ورب المستضعفين إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى قريب ملكته أمري، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي)، وكذلك كان في غزوة الأحزاب يوم أن تحالفت كل قوى الشرك -كما يحدث الآن- على ضرب الدولة الإسلامية في مدينة رسول الله.
أرسل اليهود وفداً من بني النضير يجوب القرى ويجمع الموافقات لضرب المدينة المنورة، ضربة واحدة لا يقوم للإسلام بعدها دولة أبداً، فجمعوا عشرة آلاف مقاتل، بينما كل من في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصل عددهم إلى هذا الحد، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثة آلاف، إذاً: لا توازن في القوى: عشرة مقابل ثلاثة، ولكن النصر لا يأتي بكثرة العدد؟! إن الذي يملك النصر هو رب العالمين سبحانه، ولذلك خرج النبي صلى الله عليه وسلم واستشار أصحابه؛ لأنه لم يكن يوماً ينفرد بقرار، إن لم يكن في المسألة حكم شرعي فإنه يستشير أصحابه، ونزل على رأي سلمان وحفر خندقاً حول المدينة؛ ليحول بين قوة المشركين وبين دخول المدينة، ولم يكتف رسول الله صلى الله عليه وسلم بإصدار الأمر بحفر الخندق وجلس يتابع عن بعد الذين أصدر لهم الأمر لأنه الإمام، يقول البراء بن عازب وجابر بن عبد الله: نظرنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم غزوة الأحزاب والتراب يعلوا صدره ورأسه، وأخذنا ننفض التراب عن رأسه، وكان الصحابة لشدة الجوع يربطون حجراً على بطونهم، فكشف الحبيب عن بطنه فإذا بحجرين على بطن رسول الله، هم يربطون حجراً وهو يربط حجرين، وإذا بالحبيب صلى الله عليه وسلم ينظر إلى وجوه أصحابه فيجد ألم الجوع في وجوههم فيقول (اللهم إن العيش عيش الآخره فاغفر للأنصار والمهاجرة فيجيبون: نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما حيينا أبدا).
ويدخل النبي عليه الصلاة والسلام ويتضرع إلى ربه والصحابة نيام:(اللهم يا مجري السحاب ويا منزل الكتاب اهزم الأحزاب)، فإذا بالله عز وجل يرسل ريحاً على المشركين دون قتال:{وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ}[المدثر:٣١].
الاعتراض الثاني: أن الذين اتبعوه أراذل القوم، أي: ضعفاء فقراء، قال تعالى:{وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ}[هود:٢٧]، يا نوح! الذين يتبعونك حفنة، شرذمة خارجة عن الشرعية وخارجة عن الحكم، فلماذا لا يتبعك الأسياد؟! الاعتراض الثالث: أنكم تريدون أن تكونوا أفضل منا.
الاعتراض الرابع: أن قوم نوح يريدون أن يكونوا سادة وأن يكون الباقون تبعاً لهم، وقد ذكر القرآن الكريم هذه المجادلات والمحاورات، قال سبحانه:{قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}[هود:٣٢]، وذلك عند يأس نوح من إيمان قومه، فأوحى الله إليه: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا