للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أسباب عدم سجود إبليس لآدم]

توقفنا عند قول ربنا عز وجل: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:٣٤]، وفي سورة الأعراف قال: {لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الأعراف:١١]، والسؤال هنا: ما الذي دفع إبليس لعدم السجود لآدم، فالأمر من الله عز وجل أمر صريح لا يحتاج إلى إعمال القياس والعقل والفكر، فلا قياس في وجود النص: ((اسْجُدُوا لِآدَمَ))، أمر صريح؟ بين القرآن أسباب ذلك: السبب الأول: الكبر، وهذه صفة في الإنسان أن يتكبر، إما بأصله وإما بحسبه وإمام بنسبه وإما بماله وإما بعلمه، فالتكبر أنواع، فكلما ازداد العالم علماً ازداد تواضعاً، فالمتكبر ينتهي، وانظروا إلى ماذا صنع الكبر بإبليس.

قال الأحنف بن قيس: عجباً لابن آدم! يتكبر على الأرض وقد خرج من مجرى البول مرتين! أي: من مجرى بول أبيه، ومن مجرى بول أمه! والآيات في ذم الكبر كثيرة: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف:١٤٦]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر).

السبب الثاني: أنه اعتز بأصله وبأصل خلقته، فقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:١٢].

يا إبليس! حتى لو سلمنا جدلاً أنك خير من آدم، فإن الأمر من الله عز وجل لا يحتاج إلى مناقشة، ولا إلى مجادلة، ولا إلى أن ترد الأمر على خالقك، فإبليس عند معصيته رد الأمر على الله، واتهم الله عز وجل بالظلم وعدم العلم؛ لأنه قال: ((أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) وكأنه يقول: لم تأمرني بذلك؟ ليس من العدل أن أسجد له، لكن العبد حينما يعصي الله يقر بمعصيته ويندم ويعترف، فهل إبليس اعترف بخطيئته؟ هل إبليس أقر بذنبه؟ من كتابنا من يكتب: إن الله قد ظلم إبليس! إنا لله وإنا إليه راجعون، في زمن فيه حرية الكفر فتحت الأبواب لمن هب ودب، كل يكتب على حسب هواه حتى وإن ناقض أصل الدين، وأصول المعتقدات عند المسلمين.

السبب الثالث: بسبب قياسه الفاسد، والقياس مع النص لا أصل له، إلا أن القياس لا ننكره كأصل من أصول التشريع، لكن القياس نلجأ إليه في حالة عدم وجود النص مع اتفاق العلة، فما أحدثه الناس اليوم من المخدرات حرام قياساً على الخمر؛ لأن العلة هي السكر.

قال صلى الله عليه وسلم: (لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه)، قاس العلماء الإيجار، أي: لا يستأجر أحدكم على إيجار أخيه؛ لأن العلة واحدة.

وهنا النبي صلى الله عليه وسلم يقرب المعنى إلى الأذهان بالقياس، وذلك حينما جاءه رجل من أصحابه يتهم زوجته بالزنى؛ لأنها ولدت ولداً أسود، فالأب أبيض والزوجة بيضاء والناتج زنجي أسود، هذا عطاء الله سبحانه، فاعترض الرجل، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يا رسول الله! إن امرأتي ولدت ولداً ليس من لوني.

والألوان ليس لها قيمة عند الله، قال سبحانه: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:١٣]، لكن الرجل أراد أن يلاعن زوجته من طرف خفي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أعندك إبل؟ قال: نعم.

قال: ما لونها؟ قال: حمر.

قال: أفيها أورق؟ -هل فيها واحد مخالف للمجموعة؟ - قال: فيها أورق، قال: ما تقول فيه؟، قال: لعله نزعه عرق، قال: كذلك ولدك لعله نزعه عرق)، يقرب المعنى إلى الأفهام بالقياس، وقال: (وفي بضع أحدكم صدقة، فقال الصحابة: يا رسول الله! أيضع أحدنا شهوته ويكون له أجر؟! قال: أرأيت إن وضعها في حرام أكان عليه وزر؟، قالوا: نعم، قال: كذلك إن وضعها في حلال فله أجر)، هذا أيضاً قياس، والقياس عند الأصوليين معتبر، لكن قياس إبليس قياس فاسد؛ لأنه قاس مع وجود النص.

ونحن لا نسلم لإبليس بما قال، قال ابن كثير: الطين أفضل من النار، فالطين من طبيعته: الرزانة والعطاء والأناة، وإن شئت فانظر إلى الطين وهو يعطي الثمرة، والنار من طبيعتها: الدمار والحرق، فلا نسلم له أصلاً بهذا القول، لكن هذا أمر الله سبحانه وتعالى.