إن المتأمل في آيات القرآن الكريم يجد أن الربا كالخمر في تحريمه، ويسميه العلماء التدرج في التشريع، والتدرج في التشريع ليس معناه: أن نأخذ بالتدرج في الأحكام، فإن الحكم الآن قد استقر في قوله تعالى في سورة البقرة:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}[البقرة:٢٧٨ - ٢٧٩]، فهذه آخر الآيات نزولاً في الربا.
وانظر إلى التدرج في تحريم الربا، فقد حرم الربا في المدينة ولم يحرم في مكة، شأنه شأن الخمر، لكن بعض الناس يمر على آية تعتبر مرحلة من مراحل التحريم ويجعلها حكماً، فهؤلاء يتخبطون في فهم النصوص، مثلاً: الجهاد له مراحل تدرج في فرضه، فلا ينبغي أن نأتي إلى مرحلة من مراحله ونجعلها حكماً، كذلك حكم الخمر حرام، قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ}[المائدة:٩٠]، وهي آخر آية نزلت في الخمر، فإن استدل مستدل بقوله تعالى:{لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى}[النساء:٤٣]، نقول له: هذه مرحلة من مراحل التحريم؛ لأن النفوس البشرية لا تحتاج إلى قهرها مرة واحدة، بل لا بد من التدرج، وهكذا حدث التدرج في الربا في سورة الروم، ثم في سورة النساء، ثم في سورة آل عمران، ثم ختمت بسورة البقرة.
ففي سورة الروم:{وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ}[الروم:٣٩]، وليس هذا نصاً بالتحريم، إنما هو لفت الانتباه إلى بشاعة الربا، أي: تحريك القضية في العقول.
ثم جاءت سورة النساء لتبين أن الربا حرم في شريعة اليهود، فالربا محرم في كل الشرائع السماوية، قال الله سبحانه:{وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ}[النساء:١٦١]، فاليهود هم أكلة الربا.
ثم جاءت بعد ذلك سورة آل عمران التي يستدل البعض بها الآن -وهو خطأ- بعمد:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً}[آل عمران:١٣٠]، فيقولون: إن الله عز وجل حرم الربا إذا كان أضعافاً مضاعفة، أما إن لم يكن أضعافاً مضاعفة فهو حلال.
يقول علماء الأصول: إذا كان الكلام يقر واقعاً فليس له مفهوم مخالفة، كقوله تعالى:{وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ}[الإسراء:٣١]، فرجل قال: سأقتل ولدي، لكنني لن أقتله خشية إملاق، سأقتله من غنى! فيبيح لنفسه أن يقتل، ويعلق النص على قضية خرجت مخرج الغالب، وعلى هذا المنوال فهم البعض في قوله تعالى:{وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا}[النور:٣٣]، فلا يفهم أن القانون الوضعي يحرم الزنا أكثر من القرآن؛ لأن القرآن قال:{وَلا تُكْرِهُوا}[النور:٣٣]، فهو كلام خرج مخرج الغالب، وكقوله تعالى:{وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ}[النساء:٢٣]، قالوا: هي بنت الزوجة، فإن كانت في الحجر تحرم، وإن لم تكن في الحجر لا تحرم، نقول: بل تحرم أيضاً، لكنه ذكر (فِي حُجُورِكُمْ)؛ لأن غالب الربائب يكن في الحجر.
فالمرحلة الثالثة في تحريم الربا قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً}[آل عمران:١٣٠].
فجاءت الآية الرابعة في سورة البقرة، وهي آخر آية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في تحريم الربا، يقول: الله عز وجل: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ}[البقرة:٢٧٥]، ثم جاءت الآية:{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ}[البقرة:٢٧٦]، فحدثوني عن رجل تعامل بالربا ولم تذهب بركة تجارته، وسبحان الله، لما تحدثنا عن الربا انهالت الأسئلة في التعاملات التي سادت في معاملتنا المعاصرة.