الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله.
أما بعد: فبعد أن نبع الماء أتى فوق الماء طير، والعرب كان عندهم ذكاء، إذ كانوا يفهمون بالإشارات والقرائن، وعلم القرائن مهم جداً، ولذلك قالها شاهد يوسف:{إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}[يوسف:٢٦]، فالقرينة دائماً تفيد معنى، ومن ثم قال الفقهاء: لو أن امرأة بكراً حملت لكان ذلك قرينة على الزنى، لأنه كيف تحمل وهي بكر؟! إذاًَ لابد من قرينة واضحة، فكذلك رأت قبيلة جرهم -قبيلة عربية أصيلة تتحدث العربية بطلاقة- طائراً يحلق من بعيد، فأرسلت رسولها إلى مكان الطائر فوق الماء لينظر هل هناك من أحد أم لا؟ فوجد هاجر مع ولدها والماء بجوارهما، فأخبر قبيلته فجاءوا جميعاً إلى هاجر يستسمحونها أو يأخذون الإذن منها على أن يقيموا معها في هذا المكان، فوافقت هاجر على ذلك، لأنها تحب الأنس، والإنسان أليف بطبعه وليس انطوائياً، وهو اجتماعي يؤثر ويتأثر، وكما يقول علماء الاجتماع: هو وليد البيئة، يعني: يتأثر بالبيئة وتؤثر فيه، وهذا لا شك فيه، ولذلك كان من شروط توبة الزاني غير المحصن أن يقام عليه الحد:(جلد مائة وتغريب عام)، فتغريبه عن المكان سنة، لينسى البيئة وتنساه البيئة، وأيضاً فإن أرض المعصية تذكره فلابد أن ينساها وتنساه، ومن ثم قال العلماء: الهجرة أنواع، منها: هجرة الأوطان، فإن كان الوطن لا يساعدك على طاعة الله وإنما يدفعك إلى معصية الله فارحل إلى بلد آخر يعاونك على طاعة الله عز وجل.
ولما جاءت قبيلة جرهم عند هاجر وابنها إسماعيل وشب إسماعيل بينهم، ألهمه الله الفصاحة والتحدث بالعربية بطلاقة، فأعجبت قبيلة جرهم بشخصية إسماعيل، فأرادوا أن يزوجوه منهم فتزوج منهم، وبعد أن ماتت هاجر رحمها الله تعالى جاء إبراهيم يطمئن على أهل بيته، فلم يجد هاجر ووجد بيت إسماعيل عليه السلام، فلم تعرفه زوجة إسماعيل، وإنما رأته شيخاً كبيراً وعليه غبار السفر، إذاً يحتاج إلى رعاية وضيافة وحسن استقبال، لكن أول ما وصل إلى بيت إسماعيل سأل عن حالهم، وانظر إلى هذه الزوجة -وما أكثرهن إلا القليل- تشكو زوجها للغريب، ولا تعرف للزوج الحقوق، ولا تعلم أنه إبراهيم والد إسماعيل، فقال لها: كيف حالكم؟ قالت: شر حال: في ضيق عيش وفي كد وتعب، وظلت تشكو الخالق إلى المخلوق، وما حمدت الله وأثنت على زوجها، وإنما كانت ناكرة جاحدة، فقال لها إبراهيم: إن جاء إسماعيل فأقرئيه السلام، وفي الحديث: إن إسماعيل خرج للصيد، وإلى شبابنا أقول: احذر أن تكون كسولاً لا عمل لك، وعلى شماعة الالتزام تلقي هذا الإهمال، فتقول: أنا لست فاضياً للعمل وإنما عندي ورد، وعندي دراسة، وعندي مجلس علم، فتتأخر في دراستك ولا تكون منتجاً، وتعيش عالة فتسيء إلى نفسك وإلينا جميعاً، وإنما اعمل، واكدح، (فإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده)، والعمل قيمة يا عبد الله فلا تركن أبداً، فهذا إسماعيل يخرج للصيد، وموسى يرعى الغنم عليه السلام، وما من نبي إلا وله صنعة يأكل منها، وهي مصدر وسبب في رزقه، ولذلك عندما جاء إبراهيم إلى بيت ولده لم يجده نائماً، أو جالساً أو مضطجعاً، لا، وإنما وجده في عمله.
ثم قال إبراهيم لزوجة ابنه: وأخبريه أن يغير عتبة بيته، فشبه المرأة بالعتبة، لأن العتبة تحفظ البيت وتصونه، وهي محل الوصل أيضاً، فكذلك المرأة صيانة للبيت وحفظ له، ولما جاء إسماعيل من الخارج لابد أن يطمئن ماذا حدث حال غيابه؟ ومن اتصل؟ ومن سأل؟ وما أخباركم؟ وما حالكم؟ فهذا هو الزوج، والذي ينام دون أن يسأل يلقي التبعة على غيره، فقالت زوجته: جاء رجل صفته كذا وكذا، ووصفته بأقبح الوصف، ولم تكن حتى في لسانها طيبة، ثم قال لها: ماذا قال لك؟ قالت: قال: أقرئيه السلام، وأخبريه أن يغير عتبة بيته، قال: أنت العتبة وهذا أبي، فالزمي بيت أهلك، طاعة لوالده.
وهنا نقول: إن أمرك الأب بطلاق زوجتك أتفعل؟ المسألة تحتاج إلى توقف، فإن كان الأب يأمر بذلك لسبب شرعي ديني فاستجب، وإن كان يأمر لهوى في نفسه فلا، ولذلك لما أمر عمر ابنه عبد الله أن يطلق زوجته قال له النبي صلى الله عليه وسلم:(يا عبد الله أطع أباك وطلق امرأتك)، فسئل شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه المسألة فقال: إن كان أبوك إبراهيم وأنت إسماعيل فافعل! لذا قد تجد بعض الآباء يأمر بطلاق زوجة ابنه لأنها لا تحمل نعله عند دخوله إلى البيت! فهل هذا سبب يدعوه لطلاقها؟! وبعضهم قد يجبرها على أن تفعل أشياء ربما لا تكون في الشرع أصلاً، أو ربما يأمر ابنه بطلاق زوجته لأنها من