[من قصص الأولين في تفريج الكربات]
أرسل الحجاج بن يوسف الثقفي إلى الحسن البصري يطلبه ليقتله، فقال الحسن البصري: لا إله إلا الله الكريم، سبحان الله، وتبارك الله رب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين، ولما جاء إلى الحجاج قال له: لقد أرسلت إليك وأنا أريد أن أقتلك، أما اليوم فلأنت أحب إلي من كذا وكذا! من صاحب القلوب؟!! لا إله إلا الله، إن هذا يعلمنا صدق التوكل على الله.
ويقص علينا ابن القيم في أحد كتبه قصة رجل بحراني سجن في زنزانة، وكانت الزنزانة كاملة العدد لا مكان له فيها لينام، فقال للمساجين: اقبلوني، فقالوا: لا مكان لك بيننا، إنك أتيت وعليك حكم سنوات، فقال: اقبلوني هذه الليلة وفي الليلة المقبلة سأترككم إن شاء الله، فبات الرجل ساجداً بين يدي الله، والناس نيام، وبعد أن صلى الفجر في زنزانته جاء السجان وفتح له الباب، وقال: يا بحراني اخرج فقد جاءك العفو من الأمير الآن، فوقف الرجل على باب السجن، يقول: أيها الناس! أطيعوا الله فإنه لا يضيعكم.
إنه حسن التوكل على الله، وحسن الثقة في الله.
ويروي علينا ابن أبي الدنيا في كتاب اسمه مستجابوا الدعوة: أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان في تجارة له في صحراء، فخرج عليه لص في الصحراء، فقال الرجل للص: خذ المال واتركني، قال: حاجتي إلى دمك أكثر من حاجتي إلى مالك، قال: أما وقد عزمت على قتلي -انظروا إلى تفريج الكربات- فدعني أصلي لربي ركعتين، ولأن اللص لا يعلم قدر الصلاة ولا قدر الدعاء تركه، فسجد الرجل بين يدي ربه وقال وهو ساجد: يا ودود يا ودود، يا فعال لما تريد، يا ذا العرش المجيد، أسألك بعزك الذي لا يرام، وبنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات والأرض، يا مغيث أغثني، يا مغيب أغثني، ولما انتهى من صلاته قام إلى اللص ينتظر أمر قتله، فجاء رجل ثالث يركب جواداً فنادى على اللص، ثم تقدم إليه وضرب عنقه، وهذا يستقيم مع النصوص الشرعية، فقال العبد التقي لهذا الرجل: من أنت؟ ومن الذي أرسلك؟ ومن أي البلاد جئت؟ قال: أنا ملك من السماء الرابعة، لما قلت: يا مغيث أغثني.
قلت: يا رب! عبد مكروب فوكلني به.
وهذا ما حدث في قصة يونس عليه السلام، يقول ربنا في سورة الصافات: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [الصافات:١٣٩ - ١٤٠]، العبد الآبق هو الهارب من سيده: {إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات:١٤٠ - ١٤١]، أي: أنه ركب السفينة وخرج من قومه دون أن يأذن له ربه، ومعنى (ساهم): اقترعوا، (فكان من المدحضين) أي: من المغرقين.
سؤال فقهي: متى تجوز القرعة في الفقه؟ في أحوال: أولاً: في الأذان، وذلك لو لم يكن للمسجد مؤذن راتب وتساووا في حسن الصوت استهموا عليه.
ثانياً: المساهمة بين النساء عند الخروج إلى الجهاد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرع بين نسائه عند الخروج إلى الغزو.
ثالثاً: الوقوف في الصف الأول.
رابعاً: عند تحرير العبيد: رجل عنده ستة من العبيد، وليس عنده إلا هم، وهم رأس ماله، وما يملك من الدنيا إلا هم، وقبل أن يموت أوصى بتحرير الستة، فهل هذا يجوز؟ لا يجوز؛ لأن الوصية لا تتجاوز الثلث، إذاً: اثنين من ستة، فإذا أعتق الستة فنعمل قرعة بين الستة، فقال الفقه: الاقتراع عند تحرير العبيد جميعاً وليس له إلا هم.
خامساً: رجل متزوج بامرأتين، وقال: طلقت امرأة من نسائي، وعزم على الطلاق وتلفظ به، لكنه لم يعين، قال بعض الفقهاء: نسهم بينهن؛ لأنه عزم على طلاق واحدة، لكنه لم يحدد.
كذلك كانت القرعة أيضاً في شريعة زكريا: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ} [آل عمران:٤٤]، لما ولدت مريم وأرادوا أن يكفلوها -الكفالة يعني: الضم- قام علماء بني إسرائيل ومعهم زكريا عليه السلام يقترعون عليها، مع العلم أنه أحق بكفالة مريم، فهو زوج خالتها، لكن بني إسرائيل أرادوا الجدل، فاتفقوا على أن يقيموا قرعة، كل يأتي بقلمه الذي يكتب به التوراة ويلقوه في البحر، فالقلم الذي يقف صاحبه يكفل مريم، والقلم الذي يسير في التيار لا حق لصاحبه في كفالة مريم، فجاءوا بأقلامهم ثم ألقوها في البحر، وكل الأقلام مضت إلا قلم زكريا وقف، يقول ربنا سبحانه: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران:٤٤].
ثم يقول ربنا عز وجل: {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} [الصافات:١٤٢]، أي: ملام، فكان في ظلمات ثلاث: ظلمة البحر، وظلمة الليل، وظلمة الحوت، {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:١٤٣ - ١٤٤]، (تعرف إلى ا