تفسير قوله تعالى: (ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قواريراً)
الحمد لله رب العالمين، الذي أحسن كل شيء خلقه، وبدأ خلق الإنسان من طين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق الإنسان من سلالة من طين، ثم جعله نطفة في قرار مكين، ثم خلق النطفة علقة سوداء للناظرين، ثم خلق العلقة مضغة بقدر أكلة الماضغين، ثم خلق المضغة عظاماً كأساس لهذا البناء المتين، ثم كسا العظام لحماً هي له كالثوب للابسين، ثم أنشأه خلقاً آخر، فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ.
وأشهد أن نبينا ورسولنا محمداً صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فما ترك من خير يقربنا من الجنة إلا وأمرنا به، وما من شر يقربنا إلى النار إلا ونهانا عنه، فترك الأمة على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
اللهم صل وسلم وبارك عليه في الأولين والآخرين، وفي الملأ الأعلى إلى يوم الدين.
ثم أما بعد: فيا أيها الإخوة الكرام الأحباب! نواصل الحديث مع سورة الإنسان، وقفنا عند قول ربنا سبحانه: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا * وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا * عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنثُورًا * وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا * عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا * إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا * إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا * فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا} [الإنسان:١٥ - ٢٦].
ما زالت الآيات تتناول نعيم أهل الجنة، وما أعد الله لأهل الجنة، يقول ربنا سبحانه: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ} [الإنسان:١٥] أي: يدور على أهل الجنة الخدم والولدان بأكواب من فضة، وبآنية من فضة.
قال ابن عباس: في بياض الفضة وصفاء الزجاج.
فحينما تكون الفضة صافية تعطي منظراً بديعاً، والآنية المعدة للطعام لأهل الجنة من فضة، لكنها آنية في صفاء أو في بياض الزجاج، وكذلك الأكواب والكيسان التي يشربون منها لا عرى لها، مقدرة تقديراً على حسب ريهم، وعلى حسب حجمها؛ بحيث لا تزيد عن الحاجة ولا تقل، ولا يبقى فيها شيء.
يقول ربنا سبحانه: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ} [الإنسان:١٥].
وفي حديث حذيفة المتفق عليه يقول صلى الله عليه وسلم: (لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها؛ فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة).
أي: لا يجوز أن نستخدم أواني الذهب والفضة في شراب أو طعام، ويحرم علينا أن نتمتع بالأكل في هذه الأواني؛ لأنها للكفار والمشركين في الدنيا، ولنا في الآخرة، فأي نعيم في هذه الدنيا تمتنع عنه لأجل رضا ربك سبحانه عز وجل يجازيك في الآخرة من جنسه.
فحرم عليك الحرير في الدنيا ففي الآخرة تلبس الحرير، حرم عليك الخمر في الدنيا ففي الآخرة تشرب الخمر، حرم عليك الذهب في الدنيا ففي الآخرة تلبس أساور الذهب، كما قال ربنا سبحانه: {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} [الإنسان:٢١]، وفي الآية الأخرى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} [الكهف:٣١].
قال بعضهم: يلبسون تارة ذهباً، وتارة فضة.
قال تعالى: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} [الإنسان:١٥ - ١٦] مقدرة على حسب حاجتهم.