[تعليم سليمان عليه السلام منطق الحيوان]
من النعم التي أعطاها الله لسليمان بعد نعمة الفهم في العلم: أن الله علمه منطق الطير، وفي قصة النملة معه دروس وعبر فضلاً عن حوار الهدهد، فيا ليتنا نستنبط الدروس من الآيات.
يقول ربنا سبحانه عن قصته مع النملة: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:١٨].
فإن سليمان لو شعر بالنملة وبأمة النمل ما داسها؛ لذلك قالت النملة: {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:١٨]، فكم من دولة عتيدة عظيمة جبارة تريد أن تبتلع دولة صغيرة، وكم من صاحب قصر داس على صاحب كوخ، وكم من رجل آتاه الله قوة فاستغل قوته في البطش والتعدي على من لا ينبغي له أن يتعدى عليهم، إن النملة لها حق الحياة، فلا ينبغي أن يصادر حقها في الحياة أبداً، {ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} [النمل:١٨]، قال ابن القيم رحمه الله: هناك دروس مستفادة من كلام النملة مع بني جنسها.
أولاً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلو أننا كنا بدلاً من النملة لتنحينا جانباً وتركنا الباقي ليقتل، لا نأمر بالمعروف ولا ننهى عن المنكر، لكن النملة أحبت لبني جنسها ما أحبت لنفسها، وهذا هو المعنى الغائب في معنى الأخوة، الأخوة ليست شعارات، الأخوة عمل وترجمة، انظر إلى حال السلف الصالح: رجل فقير يهدى إليه ذراع شاة، فيأخذ الذراع ويقول: أخي فلان أشد حاجة مني، فيطرق الباب ويعطيه، فيقول الآخر: أخي فلان أشد حاجة مني، فيعطيها إلى الثالث، والثالث إلى الرابع، والرابع إلى الخامس، وتنتقل ذراع الشاة بينهم حتى تصل إلى صاحبها الأول: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:٩].
يقعون في أرض معركة فيحتضرون عطشاً، وكل يحتاج إلى قطرة ماء قبل موته ليشرب وهو معذور، الروح تخرج والعطش شديد، وإن شرب لا حرج عليه، يأتي الساقي إلى الأول فيقول له: خذ الماء واشرب فأنت الآن مفارق للحياة.
فيقول: اذهب بالماء إلى أخي الذي بجواري فإنه أشد حاجة للماء مني، فيذهب إلى الثاني فيقول: اذهب إلى الثالث فالرابع! وهكذا مشهد يا ليتنا نعيش ذلك المشهد، حتى يصل إلى الأخير فيأمره أن يعود إلى الأول، فيأتي إلى الأول فيجده قد فارق الحياة، والثاني فارق الحياة، والثالث فارق الحياة، وهكذا ماتوا جميعاً دون أن يشربوا، لكنهم شربوا عند الله: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان:٢١]، فأين هذا المعنى يا عباد الله؟! النملة حريصة: ((يَا)) نداء، ((أَيُّهَا)) تنبيه، ((النَّمْلُ)) جمع، ((ادْخُلُوا)) أمر، ((مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ)) نهي، ((سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ)) خصصت وعممت، ثم أحسنت الظن بقولها: {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:١٨].
سليمان تبسم ضاحكاً من قولها، والأنبياء كان ضحكهم تبسماً، تقول أمنا عائشة رضي الله عنها: (ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم مستجمعاً ضاحكاً)، أي: ما رأيته يفتح فاه هكذا، ولم يكن يضحك بصوت مرتفع ولا بقهقهة، إنما كان ضحكه تبسماً عليه الصلاة والسلام.
قالت: (ما رأيت النبي مستجمعاً ضاحكاً حتى أرى لهواته)، واللهوات: في مؤخرة الفم، ونحن الآن نتنافس ونقول: المسرحية بها ثلاثة آلاف ضحكة.
وكثرة الضحك تميت القلب، فيا ويل الذين يضحكون الناس بكذب، قال في حقهم النبي صلى الله عليه وسلم: (ويل له، ويل له، ويل له، قالوا: من يا رسول الله؟! قال: الذي يكذب الكذبة ليضحك الناس).
أحبتي الكرام! كذلك في قصته مع الهدهد دروس وعبر، قال تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ} [النمل:٢٠]، وكلمة ((تَفَقَّدَ)) تشير إلى معنى: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)، فيا من تملأ البطن، وتنام في بروج مشيدة، وتترك الفقراء لا يملكون طعاماً، سيسألك ربك عز وجل يوم القيامة، اسمعوا إلى قول عمر وهو في المدينة: لو تعثرت بغلة في العراق لسئلت عنها: لِمَ لَمْ تمهد لها الطريق يا عمر؟! إن البغلة في أمة الإسلام لها حق، فلا بد لكل ولي أمر أن يتفقد رعيته، فكم من مظلوم لا يجد من ينصره، وكم من جائع لا يجد من يطعمه، وكم من فقير لا يجد من يؤويه، وكم من يتيم لا يجد من يكفله.
حدث ولا حرج يا عبد الله! كلهم أمانة في رقبة ولي الأمر يوم القيامة، وأنت في بيتك راع ومسئول عن رعيتك، فيا من تصلي في الصف الأول، ويا من تقرأ القرآن ثم تترك لبنتك حرية اختيار زيها، فتلبس البنطال وتخرج بعورتها المغلظة.
اعلم أنك ستحاسب بين يدي الله يوم لقيامة.
أحبتي الكرام! قال تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِين