للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم لليهود]

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد: أحبتي الكرام! لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أمره الله عز وجل أن يستقبل المسجد الأقصى كقبلة، والنبي عليه الصلاة والسلام كان لا يحب أبداً أن يشارك أهل الكتاب في شيء، كانوا لا يصلون في نعالهم وكان يصلي في نعله، وكانوا لا يغيرون البياض في لحاهم ورءوسهم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر الصحابة بالتغيير، ولما أرادوا دعوة الناس إلى صلاتهم قالوا: نشعل ناراً كما تفعل اليهود، أو يدقون ناقوساً كما تفعل النصارى، فأبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يدق الناقوس أو أن يشعل النيران حتى نزل الوحي بالأذان، فكان يحب أن يخالفهم في كل شيء، ونحن الآن نوافقهم في كل شيء، وإن أردت أن تعرف هذا الواقع فصوب النظر يميناً أو يساراً فستعلم أننا نتبعهم كما قال صلى الله عليه وسلم: (شبراً بشبر، وذراعاً بذراع).

لما أمره الله أن يستقبل المسجد الأقصى امتثل النبي صلى الله عليه وسلم لأمر الله، وامتثل من معه لأمر الله، وكان الأمر على غير رغبتهم، ولكني أقول: متى كان للمؤمن رغبة أمام أمر الله؟ {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:٣٦]، ولذلك الدرس الأول من الاتجاه إلى المسجد الأقصى هو: الامتثال الفوري لأمر الله حتى وإن خالف الهوى، فكان صلى الله عليه وسلم يصلي إلى المسجد الأقصى وبعد أن ينتهي من صلاته يقلب بصره في السماء في أدب مع ربه عز وجل سائلاً الله أن يحول القبلة إلى المسجد الحرام؛ لأن اليهود قالوا: محمد تبع قبلتنا وغداً سيتبع ديننا، وأخذوا يرجفون في المدينة، فأنزل الله عليه: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة:١٤٤]، فاستدار النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الحديث: أنه مكث ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، قال ابن حجر في فتح الباري: إن كانت ستة عشر فيكون تحويل القبلة في نصف رجب، وإن كانت سبعة عشر فيكون التحويل في نصف شعبان على اختلاف بين الرواة.

استدار النبي صلى الله عليه وسلم وصلى إلى المسجد الحرام، ووصل الخبر إلى اليهود وهم أساتذة في نشر الشائعات، قالوا: يا محمد -صلى الله عليه وسلم-! إن كانت القبلة خاطئة فلم صليت إليها؟ وإن كانت صحيحة فلم تركتها؟ ثم أخبرنا عن حكم أصحابك الذين ماتوا وهم يصلون إلى المسجد الأقصى، فأنزل الله رداً عليهم فقال سبحانه: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ} [البقرة:١٤٢]، لذلك هناك كتاب يحمل عنوان: برتوكولات حكماء صهيون، والصواب أن يسمى: برتوكولات سفهاء صهيون، لأن الذي سماهم سفهاء هو الله، قال سبحانه: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ} [البقرة:١٤٢ - ١٤٣]، أي: المسجد الأقصى {الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة:١٤٣] أي: اختباراً للإيمان، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:١٤٣] يعني: صلاتكم.

والبخاري لفقهه العالي في كتاب الإيمان يبوب أبواباً، فيقول: باب إقامة الصلاة من الإيمان، باب إلقاء السلام من الإيمان، باب إطعام الطعام من الإيمان، باب اتباع الجنائز من الإيمان، أتدرون لماذا؟ ليجيب على المرجئة الذين قالوا: إن الإيمان قول بدون عمل، كما يقول بعض المسلمين اليوم إذا قيل له صل، فيقول: أنا لا أصلي لكن قلبي أبيض والحمد لله؛ لأن الإرجاء معناه: أن يؤخر العمل عن القول، فأراد البخاري أن يبين: أن الإيمان قول باللسان وعمل بالأركان، واعتقاد بالقلب.