للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[القصص: ٥٤].

وكان -صلى الله عليه وسلم- يسلت الدم عنه، ويقول: «رب اغفر لقومي؛ فإنهم لا يعلمون» (١).

فجمع في هذه الكلمات الأربع مقامات من الإحسان، قابل بها إساءتهم العظيمة إليه، أحدها: عفوه عنهم، والثاني: استغفاره لهم، والثالث: اعتذاره عنهم بأنهم لا يعلمون، والرابع: استعطافه لهم بإضافتهم إليه فقال: «رب اغفر لقومي».

وكما تحب أن يعفو الله عن تقصيرك وإساءتك فاعف أنت عمن قصّر في حقك، وآذاك، وأساء إليك، فكما تدين تدان، وكما تفعل مع عباد الله يفعل الله معك.

وفي هذا نزل في شأن الصديق -رضي الله عنه-: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: ٢٢].

وفي الحديث: «وليأت للناس الذي يحب أن يؤتى إليه» (٢).

فمن تصور هذا وشغل به فكره هان عليه الإحسان لمن أساء إليه، مع ما يحصل له من نصر الله ومعيته الخاصة، كما قال -صلى الله عليه وسلم- للذي شكا إليه قرابته، وأنه يحسن إليهم وهم يسيئون إليه، قال: «لا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك» (٣).

هذا مع ما يتعجله من ثناء الناس عليه، ويصيرون كلهم معه على خصمه، فإن كل من سمع أنه محسن إلى ذلك الغير وهو مسيء إليه وجد قلبه ودعاءه وهمته مع المحسن على المسيء، وذلك أمر فطري، فطر الله عليه عباده، فهو بهذا الإحسان قد استخدم عسكرًا لا يعرفهم ولا يعرفونه، ولا يريدون منه إقطاعًا، ولا خبزًا.


(١) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (٣٤٧٧)، وفي استتابة المرتدين (٦٩٢٩)، ومسلم في الجهاد والسير (١٧٩٢)، وابن ماجه في الفتن (٤٠٢٥)، وأحمد ١/ ٣٨٠ (٣٦١١) من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-.
(٢) أخرجه من حديث طويل مسلم في الإمارة (١٨٤٤)، والنسائي في البيعة (٤١٩١)، وابن ماجه في الفتن (٣٩٥٦)، وأحمد ٢/ ١٩١، ١٩٢ (٦٧٩٣، ٦٨٠٧) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-.
(٣) أخرجه مسلم في البر والصلة (٢٥٥٨)، وأحمد ٢/ ٣٠٠ (٧٩٩٢) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.

<<  <   >  >>