وبلغ أبا عبيدة أن الأصمعي يعيب عليه كتاب المجاز، وقال يتكلم في كتاب الله برأيه، فسأل عن مجلس الأصمعي، في أي يوم هو، فركب حماره في ذلك اليوم، ومر بحلقته، فنزل عن حماره وسلم عليه، وجلس عنده، وحادثه، ثم قال له: يا أبا سعيد ما تقول في الخبز، أي شيء هو. فقال: هو الذي نخبزه ونأكله، فقال أبو عبيدة: فقد فسرت كتاب الله برأيك، فإن الله تعالى قال حكاية " أحمل فوق رأسي خبزاً ") يوسف: ٣٦، (فقال الأصمعي: هذا شيء بان لي فقلته، ولم أفسر برأي، فقال أبو عبيدة، والذي تغيب علينا كله شيء بان لنا فقلناه، ولم نفسره برأينا، وقام يركب حماره وانصرف.
وزعم الباهلي صاحب كتاب المعاني، أن طلبة العلم كانوا إذا أتوا مجلس الأصمعي، اشتروا البعر في سوق الدر، وإذا أتوا مجلس أبي عبيدة اشتروا الدر في سوق البعر، لأن الأصمعي كان حسن الإنشاد والزخرفة لردي الأخبار والأشعار، حتى يحسن عنده القبيح، والفائده عنده مع ذلك قليلة، وأن أبا عبيدة كان معه سوء عبارة مع فوائد كثيرة وعلوم جمة.
قال المبرد: كان أبو زيد الأنصاري أعلم من الأصمعي وأبي عبيدة بالنحو، وكانا بعده يتقاربان.
وكان أبو عبيدة كمل القوم، لا يحكي عن العرب إلا الشيء الصحيح، وحمل أبو عبيدة الأصمعي إلى مجلس هارون للمجالسة، فاختار الأصمعي لأنه كان أصلح للمنادمة. وقيل لأبي نواس: ما تقول في الأصمعي. فقال: بلبل في قفص، قيل: فما تقول في أبي عبيدة. قال: ذاك أديم وطغوى علم، قيل: فما تقول في خلف الأحمر؟ قال: جمع علوم الناس وفهمها.
ولما قدم أبو عبيده على موسى بن عبد الرحمن الهلالي، وطعم من طعامه، صب بعض الغلمان على ذيله مرقة، فقال موسى: قد أصاب ثوبك مرق، وأنا أعطيك عوضه عشرة ثياب، فقال أبو عبيدة: لا عليك، فإن مرقكم لا يؤذي، أي: ما فيه دهن، ففطن لها موسى وسكت.
وكان الأصمعي إذا أراد دخول المسجد قال: انظروا لا يكون فيه ذاك، يعني أبا عبيدة، خوفاً من لسانه، وقيل: كان مدخول النسب، مدخول الدين، يميل إلي مذهب الخوارج، وإلى بعض الأمور القبيحة والله أعلم، وكانت تصانيفه تقارب مائتي مصنف.