للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وكل من تعلق اليوم بمذهب السنة، وتفقه في معرفة أصول عن سائر المذاهب، نسب إلى أبي الحسن الأشعري، لكثرة تآليفه، وكثرة قراءة الناس لها، ولم يكن أول متكلم بلسان أهل السنة، إنما يجري على سنن غيره، وعلى نصرة مذهب معروف، فزاد المذهب حجة وبياناً، ولم يبتدع مقالة اخترعها، ولا مذهباً انفرد به.

ألا ترى أن مذهب أهل المدينة نسب إلى مالك بن أنس رضي الله تعالى عنه؟ ومن كان على مذهب أهل المدينة يقال له مالكي، ومالك إنما جرى على سنن من كان قبله، وكان كثير الإتباع، إلا أنه زاد المذهب بياناً وبسطاً وحجة وشرحاً وألف كتابه الموطأ.

وأما ما أخذ عنه من الأسمعة والفتاوى، فنسب إليه لكثرة بسطه وكلامه فيه، وكذلك الإمام أبو الحسن الأشعري، لا فرق، فليس له في المذهب كثر من بسطه وشرحه وتأليفه في نصرته، فنجب في تلاميذه خلق كثير من المشرق. وكانت شوكة المعتزلة بالعراق شديدة، وأعظم ما كانت المحنة زمن المأمون والمعتصم، فتورع عن مجادلتهم أحمد بن حنبل، فموهوا بذلك على الملوك وقالوا: إنهم يعنون أهل السنة، يفرون من المناظرة لما يعلمون من ضعفهم على نصرة الباطل، وأنه لا حجة بأيديهم، وشنعوا بذلك عليهم، حتى امتحن في زمانهم أحمد بن حنبل وغيره، حتى أخذ الناس حينئذ بالقول بخلق القرآن، حتى ما كان تقبل شهادة شاهد، ولا يستقضي قاض، ولا يفتي مفت إلا يقول بخلق القرآن.

قال: وكان في ذلك الوقت جماعة من المتكلمين، كعبد العزيز المكي، والحارث المحاسبي، وعبد الله بن كلاب، وجماعة غيرهم، وكانوا أولي زهد، لم ير واحد منهم أن يطأ لأهل البدع بساطاً، ولا أن يداخلهم. وكانوا يردون عليهم، ويؤلفون الكتب في إدحاض حججهم، إلى أن أنشأ بعدهم، وعاصر بعضهم ابن أبي بشر الأشعري، يعني الشيخ أبا الحسن المذكور، فصنف في هذا العلم لأهل السنة التصانيف، وألف لهم التآليف، حتى أدحض الله تعالى حجج المعتزلة، وكسر شوكتهم. وكان يقصدهم بنفسه. ويناظرهم، فكلم في ذلك وقيل له: كيف تخالط أهل البدع، وتقصدهم بنفسك، وقد أمرت بهجرهم؟. فقال: هم أهل رئاسة، منهم الوالي والقاضي. ولرئاستهم لا ينزلون إلي، فإذا كانوا لا ينزلون إلى، ولا أسير أنا إليهم، فكيف يظهر الحق، ويعلمون أن للسنة ناصراً بالحجة؟.

قال: وكان أكثر مناظراته مع الجبائي المعتزلي، وله معه في الظهور عليه مجالس كثيرة، فلما كثرت تآليفه، ونصر مذهب أهل السنة وبسطه، تعلق بها أهل السنة من المالكية والشافعية وبعض الحنفية. فأهل السنة بالمشرق والمغرب بلسانه يتكلمون، وبحجته يحتجون.

<<  <  ج: ص:  >  >>