للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأدركت سوق الشماعين من الجانبين معمور الحوانيت بالشموع الموكبية والفانوسية والطوافات، لا تزال حوانيته مفتحة إلى نصف الليل، وكان يجلس به في الليل بغايا يقال لهنّ زعيرات الشماعين، لهنّ سيما يعرفن بها، وزيّ يتميزن به، وهو لبس الملاءات الطرح وفي أرجلهنّ سراويل من أديم أحمر، وكنّ يعانين الزعارة ويقفن مع الرجال المشالقين في وقت لعبهم، وفيهنّ من تحمل الحديد معها.

وكان يباع في هذا السوق في كل ليلة من الشمع بمال جزيل، وقد خرب ولم يبق به إلّا نحو الخمس حوانيت بعد ما أدركتها تزيد على عشرين حانوتا، وذلك لقلة ترف الناس وتركهم استعمال الشمع، وكان يعلق بهذا السوق الفوانيس في موسم الغطاس، فتصير رؤيته في الليل من أنزه الأشياء، وكان به في شهر رمضان موسم عظيم لكثرة ما يشترى ويكتى من الشموع الموكبية التي تزن الواحدة منهنّ عشرة أرطال فما دونها، ومن المزهرات العجيبة الزيّ المليحة الصنعة، ومن الشمع الذي يحمل على العجل ويبلغ وزن الواحدة منها القنطار وما فوقه، كل ذلك برسم ركوب الصبيان لصلاة التراويح، فيمرّ في ليالي شهر رمضان من ذلك ما يعجز البليغ عن حكاية وصفه، وقد تلاشى الحال في جميع ما قلنا لفقر الناس وعجزهم.

سوق الدجاجين: هذا السوق كان مما يلي سوق الشماعين إلى سوق قبو الخرشتف، كان يباع فيه من الدجاج والأوز شيء كثير جليل إلى الغاية، وفيه حانوت فيه العصافير التي يبتاعها ولدان الناس ليعتقوها، فيباع منها في كل يوم عدد كثير جدّا، ويباع العصفور منها بفلس، ويخدع الصبيّ بأنه يسبح، فمن أعتقه دخل الجنة، ولكل واحد حينئذ رغبة في فعل الخير، وكان يوجد في كل وقت بهذه الحوانيت من الأقفاص التي بها هذه العصافير آلاف، ويباع بهذا السوق عدّة أنواع من الطير، وفي كل يوم جمعة يباع فيه بكرة أصناف القماري والهزارات والشحارير واللبغاء والسّمّان، وكنا نسمع أن من السّمّان ما يبلغ ثمنه المئات من الدراهم، وكذلك بقية طيور المسموع يبلغ الواحد منها نحو الألف، لتنافس الناس فيها وتوفر عدد المعتنين بها، وكان يقال لهم غواة طيور المسموع سيما الطواشية، فإنه كان يبلغ بهم الترف أن يقتنوا السّمّان ويتأنقوا في أقفاصه ويتغالوا في أثمانه حتى بلغنا أنه بيع طائر من السمان بألف درهم فضة، عنها يومئذ نحو الخمسين دينارا من الذهب، كل ذلك لإعجابهم بصوته، وكان صوته على وزن قول القائل: «طقطلق وعوع» وكلما كثر صياحه كانت المغالاة في ثمنه، فاعتبر بما قصصته عليك حال الترف الذي كان فيه أهل مصر، ولا تتخذ حكاية ذلك هزؤا تسخر به، فتكون ممن لا تنفعه المواعظ بل يمرّ بالآيات معرضا غافلا فتحرم الخير.

وكان بهذا السوق قيسارية عملت مرّة سوقا للكتبيين، ولها باب من وسط سوق

<<  <  ج: ص:  >  >>