البساتين، وكانت الأرض التي من صليبة جامع ابن طولون إلى باب زويلة بساتين، وكذلك الأرض التي من قناطر السباع إلى باب مصر بجوار الكبارة ليس فيها إلّا البساتين، وهذه المناظر تشرف على ذلك كله من أعلى جبل يشكر، وترى باب زويلة والقاهرة، وترى باب مصر ومدينة مصر، وترى قلعة الروضة وجزيرة الروضة، وترى بحر النيل العظيم وبرّ الجيزة. فكانت من أجلّ منتزهات مصر، وتأنق في بنائها أو سماها الكبش، فعرفت بذلك إلى اليوم. وما زالت بعد الملك الصالح من المنازل الملوكية، وبها أنزل الخليفة الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد العباسيّ، لما وصل من بغداد إلى قلعة الجبل وبايعه الملك الظاهر ركن الدين بيبرس بالخلافة، فأقام بها مدّة ثم تحوّل منها إلى قلعة الجبل، وسكن بمناظر الكبش أيضا الخليفة المستكفي بالله أبو الربيع سليمان في أوّل خلافته، وفيها أيضا كانت ملوك حماه من بني أيوب تنزل عند قدومهم إلى الديار المصرية، وأوّل من نزل منهم فيها الملك المنصور لما قدم على الملك الظاهر بيبرس في المحرّم سنة ثلاث وسبعين وستمائة، ومعه ابنه الملك الأفضل نور الدين عليّ، وابنه الملك المظفر تقيّ الدين محمود، فعندما حلّ بالكبش أتاه الأمير شمس الدين آق سنقر الفارقاني بالسماط فمدّه بين يديه، ووقف كما يفعل بين يدي الملك الظاهر، فامتنع الملك المنصور من الرضى بقيامه على السماط، وما زال به حتى جلس. ثم وصلت الخلع والمواهب إليه وإلى ولده وخواصه.
وفي سنة ثلاث وتسعين وستمائة أنزل بهذه المناظر نحو ثلاثمائة من مماليك الأشرف خليل بن قلاوون، عندما قبض عليهم بعد قتل الأشرف المذكور، ثم إن الملك الناصر محمد بن قلاوون هدم هذه المناظر المذكورة، في سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة، وبناها بناء آخر، وأجرى الماء إليها وجدّد بها عدّة مواضع، وزاد في سعتها، وأنشأ بها اصطبلا تربط فيه الخيول، وعمل زفاف ابنته على ولد الأمير أرغون نائب السلطنة بديار مصر، بعدما جهزها جهازا عظيما منه: بشخاناه، وداير بيت، وستارات طرّز ذلك بثمانين ألف مثقال ذهب مصريّ، سوى ما فيه من الحرير وأجرة الصناع، وعمل سائر الأواني من ذهب وفضة، فبلغت زنة الأواني المذكورة ما ينيف على عشرة آلاف مثقال من الذهب، وتناهى في هذا الجهاز وبالغ في الإنفاق عليه حتى خرج عن الحدّ في الكثرة، فإنها كانت أوّل بناته، ولما نصب جهازها بالكبش نزل من قلعة الجبل وصعد إلى الكبش، وعاينه ورتبه بنفسه، واهتم في عمل العرس اهتماما ملوكيا، وألزم الأمراء بحضوره فلم يتأخر أحد منهم عن الحضور، ونقط الأمراء الأغاني على مراتبهم، من أربعمائة دينار كل أمير إلى مائتي دينار، سوى الشقق الحرير، واستمرّ الفرح ثلاثة أيام بلياليها، فذكر الناس حينئذ أنه لم يعمل فيما سلف عرس أعظم منه، حتى حصل لكل جوقة من جوق الأغاني اللاتي كنّ فيه خمسمائة دينار مصرية، ومائة وخمسون شقة حرير، وكان عدّة جوق الأغاني التي قسم عليهنّ ثمان جوق من أغاني القاهرة، سوى جوق الأغاني السلطانية وأغاني الأمراء، وعدّتهن عشرون جوقة،