أمير أن يحدّثهم أو يدنو منهم، فينقل إذن إلى الخدمة ويتنقل في أطوارها رتبة بعد رتبة إلى أن يصير من الأمراء، فلا يبلغ هذه الرتبة إلا وقد تهذبت أخلاقه وكثرت آدابه، وامتزج تعظيم الإسلام وأهله بقلبه، واشتدّ ساعده في رماية النشاب، وحسن لعبه بالرمح، ومرن على ركوب الخيل، ومنهم من يصير في رتبة فقيه عارف، أو أديب شاعر، أو حاسب ماهر، هذا ولهم أزمّة من الخدّام، وأكابر من رؤوس النوب يفحصون عن حال الواحد منهم الفحص الشافي، ويؤاخذونه أشدّ المؤاخذة، ويناقشونه على حركاته وسكناته، فإن عثر أحد من مؤدّبيه الذي يعلّمه القرآن، أو الطواشيّ الذي هو مسلّم إليه، أو رأس النوبة الذي هو حاكم عليه، على أنه اقترف ذنبا، أو أخلّ برسم، أو ترك أدبا من آداب الدين أو الدنيا، قابله على ذلك بعقوبة مؤلمة شديدة بقدر جرمه، وبلغ من تأديبهم أن مقدّم المماليك كان إذا أتاه بعض مقدّمي الطباق في السحر، يشاور على مملوك أنه يغتسل من جنابة، فيبعث من يكشف عن سبب جنابته، إن كان من احتلام فينظر في سراويله، هل فيه جنابة أم لا، فإن لم يجد به جنابة جاءه الموت من كلّ مكان، فلذلك كانوا سادة يدبرون الممالك، وقادة يجاهدون في سبيل الله، وأهل سياسة يبالغون في إظهار الجميل، ويردعون من جارة أو تعدّى، وكانت لهم الإدرارات الكثيرة من اللحوم والأطعمة والحلاوات والفواكه والكسوات الفاخرة والمعاليم من الذهب والفضة، بحيث تتسع أحوال غلمانهم، ويفيض عطاؤهم على من قصدهم.
ثم لما كانت أيام الظاهر برقوق، راعى الحال في ذلك بعض الشيء إلى أن زالت دولته في سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، فلما عاد إلى المملكة رخص للمماليك في سكنى القاهرة، وفي التزوّج، فنزلوا من الطباق من القلعة ونكحوا نساء أهل المدينة، واخلدوا إلى البطالة، ونسوا تلك العوائد، ثم تلاشت الأحوال في أيام الناصر فرج بن برقوق، وانقطعت الرواتب من اللحوم وغيرها حتى عن مماليك الطباق مع قلة عددهم، ورتب لكلّ واحد منهم في اليوم مبلغ عشرة دراهم من الفلوس، فصار غذاؤهم في الغالب الفول المصلوق، عجزا عن شراء اللحم وغيره، وهذا وبقي الجلب من المماليك إنما هم الرجال الذين كانوا في بلادهم ما بين ملاح سفينة ووقاد في تنور خباز، ومحوّل ماء في غيط أشجار ونحو ذلك، واستقرّ رأي الناصر على أن تسليم المماليك للفقيه يتلفهم، بل يتركون وشؤونهم، فبدّلت الأرض غير الأرض، وصارت المماليك السلطانية أرذل الناس وأدناهم وأخسهم قدرا، وأشحهم نفسا، وأجهلهم بأمر الدنيا، وأكثرهم إعراضا عن الدين، ما فيهم إلّا من هو أزنى من قرد، وألص من فأرة، وأفسد من ذئب، لا جرم أن خربت أرض مصر والشام، من حيث يصب النيل إلى مجرى الفرات، بسوء إبالة الحكام، وشدّة عبث الولاة، وسوء تصرّف أولي الأمر، حتى أنه ما من شهر إلّا ويظهر من الخلل العام ما لا يتدارك فرطه، وبلغت عدّة المماليك السلطانية في أيام الملك المنصور قلاون ستة آلاف وسبعمائة، فأراد ابنه الأشرف