قيل لمالك: إن شريحا كان لا يرى الحبس ويقول لا حبس عن فرائض الله، فقال مالك: تكلم شريح ببلاده - ولم يرد المدينة فيرى آثار الأكابر من أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وأصحابه، والتابعين بعدهم - هلم جرا إلى اليوم؛ وما حبسوا من أموالهم لا يطعن فيه طاعن؛ وهذه صدقات النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سبعة حوائط؛ وينبغي للمرء أن لا يتكلم إلا فيما أحاط به خبرا؛ وبهذا احتج أيضا مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - لما ناظر أبا يوسف بحضرة الرشيد فقال: هذه أحباس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصدقاته ينقلها الخلف عن السلف - قرنا بعد قرن، فقال حينئذ أبو يوسف: كان أبو حنيفة يقول إنها غير جائزة، وأنا أقول إنها جائزة، فرجع في الحال عن قول أبي حنيفة إلى الجواز، وروي أن رجلا من أهل العراق سأل مالك عن صدقة الحبس فقال: إذا حيزت مضت. فقال العراقي: إن شريحا قال لا حبس عن كتاب الله، قال: فضحك مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وكان قليل الضحك - وقال: يرحم الله شريحا لو درى ما صنع أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ههنا - ما قاله. وقد امتنع أصحاب أبي حنيفة المتأخرون من إطلاق القول بإبطال الحبس، وقالوا هو جائز ولكن لا يلزم إلا بأحد أمرين: إما أن يحكم به حاكم، أو يوصي به في مرضه أن يوقف بعد موته، فيصح ويكون من ثلث ماله - كالوصية، إلا أن يكون مسجدا، أو سقاية؛ فإن وقف ذلك، يصح ولا يحتاج إلى حكم حاكم؛ وهذا بعيد، لأن ما لا يجوز للرجل أن يفعله في حياته، فلا يجوز أن يوصي به بعد وفاته، وما لا يحل، لا يحله حكم الحاكم. قال الله عز وجل:{وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[البقرة: ١٨٨]، وحكى محمد بن عبد الحكم عن أبي حنيفة فيما زاده في مختصر أبيه، أنه قال: كل