والاجتهاد بذل الوسع في طلب صواب الحكم، وهذا على مذهب من قال: إن الحق في طرف واحد، وإن المكلف إنما كلف طلب الحق ولم يكلف إدراكه، وهذا مذهب جماعة من أهل العلم؛ وقد استدل جماعة من أصحابنا على أن هذا هو مذهب مالك بقوله: - لما سئل عن اختلاف أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مخطئ ومصيب، وهذا لا دليل فيه، لاحتمال أن يريد اختلافهم فيما طريقه العلم، مثل ما وقعت بينهم فيه الحروب، أو يكون معنى قوله: إن منهم من أصاب النص، ومنهم من أخطأه باجتهاده فيما طريقه الاجتهاد، والأول أظهر - والله أعلم.
وأما عن مذهب من قال: إن كل مجتهد مصيب، فالاجتهاد عنده بذل الوسع في إدراك صواب الحكم، وإلى هذا ذهب القاضي أبو بكر الباقلاني - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وحكى أن هذا هو مذهب مالك واستدل على ذلك من مذهبه بأن المهدي أمره أن يجمع مذهبه في كتاب يحمل عليه الناس، فقال له مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد تفرقوا في البلاد، وأخذ أهل كل ناحية عمن وصل إليهم، فدع الناس وما هم عليه؛ فلولا أن مالكا - رَحِمَهُ اللَّهُ - رأى أن كل مجتهد مصيب، لما رأى أن يقرهم على ما هو الخطأ عنده، وعلى هذا أصحاب الشافعي.
وقد روي عن أبي حنيفة القولان جميعا، وكذلك فقد روي عن أبي الحسن الأشعري - رَحِمَهُ اللَّهُ - القولان جميعا، والصحيح عنه أن كل مجتهد مصيب- وهو الحق والصواب؛ لأن المجتهد إذا اجتهد فيما لا نص فيه ولا إجماع، فأداه اجتهاده إلى تحليل أو تحريم، يعلم قطعا أنه متعبد بما أداه اجتهاده إليه، من ذلك مأمور به، ولا يصح أن يأمره الله تعالى بشيء ويتعبده به وهو خطأ عنده، وقد استدل بعض من ذهب إلى أن الحق في واحد باختلاف المجتهدين في طلب سمت القبلة وهذا غلط بين، إذ ليس اختلاف المجتهدين في الأحكام كاختلاف المجتهدين في طلب سمت القبلة؛ لأن الكعبة في موضع واحد، فمن وافق جهتها باجتهاده فهو مصيب، ومن لم يوافق جهتها فهو مخطئ، لاستحالة كون الكعبة في موضعين، وليس كذلك ما عاد إلى