وكان أول ما بعثه الله به الدعاء إلى الإسلام من غير قتال أمره به ولا أذن له فيه، ولا جزية أحلها له، فأقام - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك عشر سنين، وهي التي أقام بمكة، أو ثلاث عشرة سنة، وحينئذ أنزل الله:{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}[الحجر: ٩٤] وقوله: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}[البقرة: ٢٥٦] وقوله: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ}[المائدة: ١٣] وما أشبه ذلك من الآيات. فلما هاجر إلى المدينة أذن الله تعالى له وللمؤمنين بقتال من قاتله، وأمرهم بالكف عمن لم يقاتلهم فقال تعالى:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}[الحج: ٣٩] وقال تعالى: {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ}[البقرة: ١٩١] وقال تعالى: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلا}[النساء: ٩٠].
فكانت هذه سيرة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منذ هاجر إلى المدينة إلى أن نزلت سورة براءة، وذلك بعد ثمان من الهجرة، فأمر الله تعالى بقتال جميع المشركين من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، فقال:{قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ}[التوبة: ٢٩] إلى قوله {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}[التوبة: ٢٩] وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب»، إلا من كان له عهد عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -