الصلاة في مسجد الرسول - عَلَيْهِ السَّلَامُ - على سائر المساجد إنما هو في مقدار الفضيلة لا في أصلها، فكأنه قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد، إلا المسجد الحرام فإنه أفضل منه بدون الألف لفضل مسجد مكة على غيره من المساجد؛ فكانت للمسجد الحرام بذلك مزية على سائر المساجد، كما كان لمسجد الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مزية على المسجد الحرام، فبان بذلك فضل المدينة على مكة. هذا معنى قوله وليس بصحيح؛ لما ذكرنا من تضعيف الاستدلالات التي استدل بها لفضل المدينة على مكة؛ ولما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نصا من «أن الصلاة في المسجد الحرام بمكة أفضل من الصلاة بمسجد الرسول بالمدينة،» فالاستثناء في هذا الحديث على ظاهره استثناء لجملة التفضيل، فكأنه قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد، إلا المسجد الحرام فإنه لا فضل له عليه، بل له الفضل عليه على ما جاء في الحديث الذي ذكرناه.
وقد استدل بعض من ذهب إلى تفضيل المدينة على مكة بقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما على الأرض بقعة أحب إلي أن يكون قبري بها. يعني المدينة». وهذا لا حجة فيه؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما هاجر من مكة فلم يصح له الرجوع إليها وكانت المدينة أحب البقاع إلى الله بعدها استحب ألا ينتقل عنها حتى يموت فيها فيكون قبره بها، وبالله التوفيق.
فصل
في
حكم إجماع أهل المدينة وترجيح مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -
وذكر فضله وعلو مرتبته في العلم
إجماع أهل المدينة على الحكم فيما طريقه النقل حجة يجب المصير إليها والوقوف عندها وتقديمها على أخبار الآحاد وعلى القياس، كنحو إجماعهم على جواز الأحباس والأوقاف، وعلى صفة الأذان والإقامة، وعلى مقدار صاع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومده، وعلى إسقاط الزكاة من الخضروات وشبه ذلك؛ لأن ذلك كله نقله الخلف