ومن ذلك أيضا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها» وهذا لا حجة فيه أيضا؛ لأن معنى قوله: إن الإيمان ليأرز إلى المدينة أن الناس ينتابونها من كل ناحية للدخول في الإسلام؛ لكون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها، فهذا لا دليل فيه على أنها أفضل من مكة.
ومن ذلك أيضا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمرت بقرية تأكل القرى يقال لها: يثرب تنفي الناس كما ينفي الكير خبث الحديد». وهذا لا حجة فيه أيضا؛ لأن المعنى أمرت بالهجرة إلى قرية تفتح القرى منها أي المدن، فكان ذلك كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: في حياته وبعد وفاته، وذلك من علامات نبوته أن أخبر بما كان قبل أن يكون، فلا دليل في ذلك على أنها أفضل من مكة.
ومن ذلك أيضا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال». وهذا لا دليل فيه أيضا لا سيما وقد جاء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية جابر ابن عبد الله «أنه يرد على كل ماء وسهل وجبل إلا المدينة ومكة قد حرمها الله عليه وقامت الملائكة بأبوابها».
ومن ذلك أيضا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة»، ولا دليل في ذلك؛ لأن المعنى فيه الإعلام بفضل ذلك الموضع فترفع درجات المصلي فيه ويسمع دعاؤه فيه فيصل بذلك إلى روضة من رياض الجنة. فالكلام ليس بحقيقة وإنما هو من المجاز الذي جاء به القرآن ويعرفه العرب، مثل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الجنة تحت ظلال السيوف»، وليس في إعلامه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بفضل ذلك الموضع ما يدل على أن المدينة أفضل من مكة.
ومما استدل به أيضا على أن المدينة أفضل من مكة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مخلوق منها، فتربته أفضل الترب. وهذا لا حجة فيه أيضا؛ لأنا قد بينا أن البقاع لم يفضل بعضها على بعض بمعنى موجود فيها من خاصية تختص بها، وإنما فضلت عليها لتفضيل الله لها برفع درجات العاملين فيها.
ولما أكمل احتجاجه بهذه الأحاديث التي ذكرناها وضعفنا احتجاجه بها قال: فإذا ثبت بما ذكرناه فضيلة المدينة على مكة كانت الصلاة في مسجدها أفضل لا محالة من الصلاة في المسجد الحرام، ويكون استثناء المسجد الحرام من تفضيل