صغيرة حقيرة هانت عليه فترك منها زهدا فيها كل ما لا قربة في أخذه منها من التنعم بنعيمها من المطعم والمشرب والاستمتاع بمتاعها من الملبس والمركب والمسكن والتلذذ بملاذها من المسموعات والمبصرات، والخلود فيها إلى الراحة، فلم يأخذ من ذلك كله إلا قوام عيشه، أو ما كان زائدا على ذلك مما ندب إلى أخذه كاتخاذ ثوبين لجمعته، ولباس ما يغره لباس ما دونه، لأن الله عز وجل يحب أن تُرَى أثر نعمته على عبده على ما جاء في الحديث. وكالراحة التي يستعين بها على الطاعة على ما جاء عن معاذ بن جبل من قوله لأبي موسى الأشعري: أما أنا فأنام أول الليل وأقوم آخره وأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي، فهذا هو الزهد في الدنيا. وأما ترك ما يجب تركه من المحرمات فلا يسمى زهدا،، ولا اسم طاعة، وإن كان في الحقيقة زهدا وطاعة؛ لأنه إنما زهد في ذلك خوف العقاب، وليس هذا هو الزهد الذي يتطوع به رجاء جزيل الثواب ومرضاة الرحمن.
وأما الزاهد فهو المستصغر للدنيا الذي قد انصرف قلبه عنها لصغر قدرها عنده، فلا يفرح بشيء من الدنيا، ولا يحزن على فقده، ولا يأخذه منها إلا ما أمر بأخذه، أو ما يعينه على طاعة ربه، ويكون مع ذلك قلبه دائم الشغل بذكر الله تعالى، وذكر الآخرة والفكرة فيها، لا ينتقل عما هو فيه من ذلك إلا إلى ما هو في معناه من ذكر الله، أو ذكر الآخرة على قدر الأحوال وطلب القربة لا مالا له، وطلبا للاستراحة منه لما هو أخف عليه مما فيه تسلية لنفسه. وهذا هو أرفع أحوال الزهد، لأن من بلغ إلى هذه المرتبة منه فهو في الدنيا بشخصه، وفي الآخرة بروحه وعقله، قد غلب وساوس الشيطان، واستحق الثواب الجزيل من الله تعالى والرضوان.