في الحرام، لأن العباد لم يؤمروا بالزهد فيما أحل لهم، بل هم مأجورون على اكتسابه إذا تورعوا فيه، فلهم من الأجر على ذلك ما ليس لتارك الاكتساب. قالوا: ففي التمتع بالحلال خلال لا يجوز الزهد فيها، منها الأجر على التحري، والتورع في اكتسابه، وعلى الشكر لله على ذلك. ومنها أنه يكون له في تمتعه بالحلال عصمة عن الحرام، لأن من أكل الطيب ولبس اللين ثم رأى غيره ينال ذلك لم تدعه نفسه إلى الحسد، ولا إلى طلب ذلك من حرامه. واحتجوا لقولهم بما ترك بعض أصحاب النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من المال إلا أنه لا تورث. قالوا: فلو كان الزهد في الحلال لما أبقى أحد من هؤلاء وراءه شيئا من المال، فلم تفرق هذه الطائفة بين الزهد والورع وجعلوهما شيئا واحدا.
والذي أقول به في هذا: إن الزهد غير الورع، وإن الزهد إنما هو في الحلال لا في الحرام، لأن ترك الحرام فرض فلا يقال فيمن تركه: إنه من أهل الزهد في الدنيا. وإن الزهد هو المعنى الذي يبعث صاحب المال على أن يجود لله عز وجل من ماله بما لا يلزمه من صلة رحم أو عتق أو تحبيس في السبيل، أو بناء مسجد أو هبة أو صدقة أو تحبيس وما أشبه ذلك، وإن لم يستوعب بذلك ماله كله أو أبقى لنفسه منه بعضه لنفقة على نفسه وعياله، وإن أكل من طيب الطعام وشرب من لذيذ الشراب، ولبس لين الثياب من غير إسراف ولا إقتار، إذ قد ندب الله عز وجل إلى ذلك بقوله:{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}[الفرقان: ٦٧] وقد سئل مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن معنى قوله عز وجل:{وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ}[القصص: ٧٧] فقال: معناه أن يعيش في الدنيا ويأكل ويشرب غير مقتر عليه، ولما عسى أن يراه من وجوه البر، ومخافة أن تطول حياته فيبقى عالة